في زمن أضحت فيه الأمية في عدم امتلاك حساب على السوشيال ميديا، وعدد متابعيك معيار أهميتك، وفي الوقت الذي تحوّلت فيه وسائل التواصل الاجتماعي إلى مدينة نابضة لا تعرف النوم، مفتوحة على مدار الساعة لكل من أراد الدخول، بلا جواز مرور ولا شروط. منصات مترامية، تضجّ بكل شكل وصوت، تتداخل فيها الآراء، وتتقاطع الصور والتعليقات في سباق لا يهدأ نحو الإعجاب والمشاهدة.
وسط هذا الزخم الرقمي اللامحدود، والانسياق وراء (البرستيج السوشيلجي) برزت ظاهرة تستحق التأمل، بدأنا نصنع لأنفسنا نسخًا جديدة، وجوهًا رقمية مموّهة. كأننا نرتدي كل يوم شخصية مختلفة، نُجمّل ما نُظهر، ونُبالغ فيما نروي. لا نكذب دائماُ، ولكننا نختار الحقيقة التي نُريد للعالم أن يراها. وهنا يبرز السؤال الأصعب: هل ما نراه على الشاشات هو نحن فعلًا؟ أم أننا فقدنا أنفسنا خلف الأقنعة التي نصنعها بأيدينا؟
في زمنٍ لم يعد فيه المرء يعيش حياته، بل ينتجها بعناية فائقة كفيلم سينمائي، صارت السوشيال ميديا مسرحًا كبيراُ نؤدي فيه أدواراُ لم نكتبها لأنفسنا، بل كتبتها لنا رغبتنا في أن نكون أي شيء إلا ذواتنا الحقيقية. ها نحن نخلق شخصيات متخيلة بكل إتقان، نلبسها أجمل الثياب، نزينها بأبهى الصور، ثم ننسى في زحمة هذا الإنتاج أين تركنا أنفسنا الحقيقية.
لم نعد ننشر لحظاتنا بقدر ما نصنع لحظات للنشر. كم من مرة التقطنا عشرات الصور لنختار واحدة فقط، نعدلها بعناية، نزيل منها عيباُ هنا، نضيف لمسة جمال هناك، حتى إذا اكتملت، لم نعد نتعرف على أنفسنا فيها؟ هنا يبدا الانفصام بهذه الخطوة البسيطة، حيث تتحول الصورة من كونها توثيقاُ للواقع إلى إنتاج للوهم.
للأسف في هذا العالم الافتراضي، أضحى لكل منا سيرة ذاتية مزيفة. نكتب فيها ما لم نفعله، نصور فيها ما لم نعشه، نروي فيها قصصًا لم تحدث. نضع الإنجازات في سطور، ونخفي الفشل ما بين السطور، نبرز السعادة في الصور، نخبئ الحزن خلف الفلاتر. وهكذا، نعيش حيوات مزدوجة: "حياة نعيشها وحياة ننتجها للآخرين. الفجوة بينهما تتسع يومًا بعد يوم، حتى نصل إلى مرحلة لا نعرف فيها أيّ النسختين هي الأصدق".
الحقيقة المؤلمة أننا في سعينا المحموم لنكون مميزين، نفقد القدرة على أن نكون أنفسنا. نخلق عالماُ افتراضيا متخيلاً من بناة أفكارنا، متنازلين فيه عن أصالتنا في سوق المتابعين، نبيع تفاصيلنا الحقيقية في مزاد الإعجابات. كلما زاد عدد المتابعين، قل عدد الأشخاص الذين يعرفوننا حقًا، كلما زادت التفاعلات، قلت العلاقات الحقيقية.
الصدمة الحقيقية نكتشفها بعد منتصف الليل، عندما نطفئ الشاشات، ونعود لعالمنا الحقيقي، نجد أنفسنا وحيدين مع ذواتنا الحقيقية التي أهملناها طويلًا. تلك الذات التي لا تحتاج إلى فلتر لتكون جميلة، لا تحتاج إلى كليشيهات لتكون مثيرة للاهتمام، لا تحتاج إلى أكاذيب لتكون محبوبة. ربما حان الوقت لأن نتوقف عن الهروب من أنفسنا، أن نعيد اكتشاف جمال الأصالة في زمن التزييف، أن نتعلم أن نعيش اللحظة ببساطتها قبل أن نصورها.
في النهاية، (السوشيال ميديا) مجرد أداة، والخيار بين أن نكون أنفسنا أو أن نكون نسخاُ مزيفة قرارٌ شخصي. لكن التاريخ علمنا أن كل المسيرات الكبرى تبدأ بخطوة واحدة. ربما تبدأ هذه الخطوة عندما ننشر صورة حقيقية دون تعديل، عندما نكتب تجربة فاشلة بكل صدق، عندما نختار أن نكون لا أن نبدو. لأن الحياة الحقيقية تحدث خارج الشاشات، والذكريات الحقيقية تُصنع عندما نضع الهواتف جانبًا ونعيش اللحظة كما هي.
هكذا، بين الفلتر والواقع، نجد أنفسنا على مفترق طرق: إما أن نستمر في تمثيل أدوارنا في هذه المسرحية الكبرى، أو أن ننزل عن المسرح لنعيش حياتنا كما تستحق أن تُعاش. الخيار، دائمًا، بين أيدينا