في عالمٍ تحكمه الصورة، وتتنازع فيه السرديات، لا تعود التغطية الإعلامية مجرد انعكاس للواقع، بل تصبح أداة لصناعته وإعادة تشكيله، وحين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، وتحديدًا ما يحدث في قطاع غزة، فإن المشهد الإعلامي لا يعكس فقط حجم المعاناة، بل يُفصح عن اختلالٍ عميق في المعايير، وتحكّم متزايد في بوابة العقول والقلوب التي تتمثل في وسائل الإعلام.

لقد أضحى من الواضح أن الإعلام الدولي، بما في ذلك بعض المنصات العربية، لا يتحرك وفق أهمية الحدث بقدر ما يتحرك ضمن أجندة مصالح، حيث تُدار التغطية وكأنها جزء من غرفة عمليات سياسية، وليس من قسم تحرير مهني، وحين تتوقف عدسات الكاميرا عن نقل ما يجري في غزة – رغم استمرار القصف، والحصار، والدمار، فذلك لا يعني أن الواقع تغيّر، بل إن قرارًا ما قد اتُّخذ لتغييبه.

حتى شهر أيار 2025، خلفت الحرب الإسرائيلية على المحافظات الجنوبية لفلسطين (قطاع غزة)، والتي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023م، عن أكثر من (53655) ألف فلسطيني شهيد نتيجة هذا العدوان، من بينهم ما يزيد عن (18,000) طفل و(12,400) امرأة، و(3853) مسن، إلى جانب (1411) من الطواقم الطبية، (203) من موظفي الأونروا، وما يقارب (11,200) مفقود من بينهم (4700) مفقود من الأطفال والنساء. بالإضافة إلى (981) شهيد في المحافظات الشمالية لفلسطين (الضفة الغربية) من بينهم (197) طفل، إلى جانب أكثر من (121,950) ألف جريح، فضًلا عن (2000000) مليون نازح، وذلك بحسب وزارة الصحة الفلسطينية والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

وبالنظر إلى تقرير نقابة الصحفيين الفلسطينيين، واتحاد الصحفيين الدوليين ومنظمة مراسلون بلا حدود، فقد تبين أن (219) صحفي قُتلوا في غزة منذ بدء الحرب، وهو العدد الأكبر من الصحفيين الضحايا في نزاع واحد خلال عقدين من الزمن. ومع ذلك، قلّما يتم تسليط الضوء على هذه الجرائم باعتبارها استهدافًا متعمدًا للصوت الفلسطيني الحر.

بالإضافة إلى أن أكثر من 80% من البنية التحتية في غزة دُمّرت أو تضررت، بما في ذلك المدارس والمستشفيات ودور العبادة، وفق تقرير للأمم المتحدة، بينما يعاني ما يزيد عن 1.8 مليون فلسطيني من النزوح الداخلي، أي ما يعادل نحو 80% من سكان القطاع.

فضلًا عن الجوع والعطش والمجاعة التي انتشرت نتيجة الحصار الشديد، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية، وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من مليون طفل فلسطيني من مختلف الأعمار يعانون من الجوع اليومي، ويواجهون خطر الموت جوعًا، فقد استشهد (57) طفلًا بسبب الجوع، وهنالك نحو (65) ألف طفل أصيبوا بأمراض سوء التغذية الحاد وقد نقلوا إلى المستشفيات والمراكز الطبية المدمرة، بالإضافة إلى (335) ألف طفل دون سن الخامسة على شفى الموت في المستشفيات.

إن هذه الأرقام ليست مجرّد إحصاءات، بل أرقامٌ مؤلمة لا تعبّر فقط عن حجم المأساة، بل تفضح حجم التجاهل الإعلامي المتعمّد، إذ تُختزل هذه الأرواح في نشرات الأخبار كأرقام عابرة، في حين أن كل رقم منها يمثل حياةً فُجعت، وأُسرة تشرّدت، ومستقبلًا قُطع قبل أوانه.
والمفارقة المؤلمة بعد تناول هذه الإحصائيات، أن طفلاً ينتشل من تحت الأنقاض في غزة لا يحظى بذات التغطية التي يُمنحها خبر عن اضطراب مروري في عاصمة أوروبية، أو حدث أمني في سفارة لدولة غربية، أو أزمة بدأت تتشكل بين دولتين، وهذه ليست مقارنة عاطفية بقدر ما هي صرخة منطقية نتساءل من خلالها: ما الذي حدث لمعايير التغطية؟ وما الذي يجعل دم طفل فلسطيني "أقل أولوية" في أجندة الأخبار؟

حتى نتمكن من الإجابة على هذه التساؤلات، فالأمر بحاجة إلى التأمل في أخبار الترفيه أو الرياضة أو حتى تقارير الطقس عناوين نشرات الأخبار أو حدث في أحد الفنادق التي تتصدر وسائل الإعلام، في حين تختفي غزة من العناوين عند قراءة أجندة الإعلام العالمي، وتُدفن معاناتها في أسفل التغطية، وهذا الخلل الفاضح في ترتيب الأولويات الإعلامية لا يعكس فقط تغليباً للمحتوى الترفيهي على القضايا الإنسانية، بل يُظهر انحيازًا واضحًا لمنطق السوق والرعاة والمصالح السياسية، على حساب الدم الفلسطيني.

فحين يعاد صياغة سلّم أولويات الإعلام بناءً على إملاءات القوى المهيمنة، يُحوّل الضحايا إلى أرقام هامشية، ويُلبس الجلاد قناع الحياد أو الضحية أحيانًا. وهكذا، يُصبح الصمت الإعلامي موقفًا، بل وسلاحًا يُستخدم لتطبيع الظلم وتهميش الحقيقة.

وإذا نظرنا إلى الإجابة من منظور سياسي فإنها تكمن في البُعد السياسي العميق الذي يتحكم في ترتيب الأخبار، واختيار الصور، وتحديد "القصص الصالحة للنشر"، فغزة التي كانت ملء الشاشات قبل أشهر، تحوّلت فجأة إلى هامش قصصيّ، لا لأن الحرب توقفت، بل لأن رواية الصمود لم تعد تخدم السردية التي يريد البعض تصديرها.

وهنا، تتجلى أخطر أدوار الإعلام في إعادة تشكيل الوعي، ليس فقط عبر طريقة عرض الخبر، بل من خلال اختيار ما يُعرض وما يُحجب، وإن غياب غزة عن العناوين الرئيسة ليس فراغًا إعلاميًا، بل تغييبًا واعيًا، لا يمكن فصله عن رغبةٍ ما في صناعة ذاكرة مشوهة، وترويض رأي عام عالمي كان قد بدأ يتحرّك نحو التضامن.

وبحسب استطلاع أجرته مؤسسة "يوغوف" في أبريل 2024 كشف أن 62% من الرأي العام الأوروبي يرون أن التغطية الإعلامية للقضية الفلسطينية "منحازة"، و56% يشعرون بأن الجرائم المرتكبة في غزة "لا تحظى بالاهتمام الكافي". وهذا يُظهر كيف أن الجمهور يسبق أحيانًا غرف الأخبار ويدرك التحيز الإعلامي حتى لو لم يُعلنه الصحفيون صراحة.

من المؤلم أن يتساوق هذا التحول مع تواجد الحضور الإعلامي الفلسطيني الممنوع من الوصول للعالم بسبب سيطرة أصحاب الأجندات على نطاق الانتشار والتغطية الإعلامية، ومع ضعف في الخطاب العربي الجمعي الذي كان – في زمنٍ مضى – يتقن فن استنهاض الضمير العالمي، واليوم، نحن أمام لحظة حرجة تتطلب وقفة مراجعة، ليس فقط لأداء الإعلام الدولي، بل أيضًا لمنصاتنا الوطنية والإقليمية، التي بات بعضها يكرر الرواية الوافدة بدل أن يُنتج روايته المقاومة.

إن التحدي اليوم لا يقتصر على إيصال صورة الشهيد أو صوت الجريح، بل يتعدى ذلك إلى ضرورة استعادة القدرة على إدارة الرأي العام، وفرض الحضور الفلسطيني كقضية لا يمكن إسقاطها من نشرات الأخبار بجرّة قلم أو بتحليل "بلاستيكي" يصب في صالح المحتل.