مع انهيار الأيديولوجيات القومية والوطنية الجامعة لكل مواطنيها ومع تفجر الصراعات الطائفية والإثنية- القومية-والقبلية مع فوضى ما يسمى (الربيع العربي) تَشَذَّرَ الوطن والتبس مفهومه سواء عند المواطنين أو الأحزاب وأصبح انتماء المواطن لطائفته وقبيلته وليس للوطن والمجتمع الكلي، وأصبح نضال الأحزاب والنخب ليس من اجل الوطن بل من أجل السلطة، ليس سلطة الوطن وكل الشعب بل سلطة الطائفة والإثنية والقبيلة أو السلطة المطلقة للحاكم، فالوطن بالنسبة لهؤلاء هو وطن الشيعي أو السني أو المسيحي أو الأمازيغي أو دولة الخلافة أو وطن الحاكم وحاشيته، أما الآخرون فمجرد رعايا ومواطنين من الدرجة الثانية لأن كل دولة وسلطة طائفية هي سلطة عنصرية لا محالة.
ليس بعد وصول هذه الجماعات للسلطة من جهد إلا للحفاظ عليها، وكل ما نشاهده ونسمعه عن ثورات وانقلابات وحروب أهلية ما هي إلا محاولات للحفاظ على السلطة أو الوصول لها حتى وإن كانت سلطة على جزء من الوطن وعلى حسابه، وليس من أجل الدولة الوطنية ومصلحة الشعب.
فأينما يممت النظر، في العالم العربي، أو الذي كان عربيا، من اليمن والعراق إلى لبنان وسوريا وفلسطين مرورا بالسودان وليبيا نشاهد دولا واوطانا تتدمر و تتجزأ بسبب الحروب الأهلية والصراع على السلطة حتى وإن كانت على جزء من أرض الوطن، وفي خضم هذا الصراع لا يتورع الفرقاء المتصارعون على طلب الدعم والاسناد من الخارج حتى وإن كان هؤلاء المُستعان بهم أعداء تاريخيين للوطن والدولة القومية و طامعين في أرضهم، هذا ما فتح المجال لتدخلات خارجية أفقدت الوطن والأمة حريتها واستقلالها، تدخلات من إيران وتركيا وأمريكا والغرب عموما وحتى من إسرائيل وهي تدخلات تتم غالبا بدعوة من الأطراف المتصارعة، فتكون النتيجة ضياع الوطن والتباس مفهومة.
فهل مفهوم الوطن والدولة عند الحوثيين في اليمن هو نفسه عند الحراك الجنوبي أو عند أحزاب السلطة الشرعية؟ هل مفهوم الوطن والدولة عند شيعة العراق نفسه عند البعثيين والسنة المُبعدين عن السلطة؟ هل مفهوم الوطن والدولة عند السلفية الجهادية في الجزائر أو عند بعض الأحزاب الامازيغية نفسه عند جبهة تحرير الجزائر وغالبية الشعب؟ هل مفهوم الوطن والدولة عند حركة حماس نفسه عند حركة فتح؟ هل مفهوم الوطن عند تنظيم القاعدة وداعش ومئات الجماعات الاسلاموية في أي بلد يتواجدون فيه نفسه مفهوم الوطن والدولة عند العلمانيين وغالبية أبناء الشعب ؟ الخ.
أصبح لكل طائفة وجماعة دولة وسلطة داخل الدولة الأم، ففي لبنان دولة حزب الله، وفي العراق دولة الشيعة ودولة الأكراد، وفي اليمن دولة الحوثي ودولة عدن في الجنوب، وفي ليبيا دولة قبائل شرق ليبيا ودولة قبائل غرب ليبيا ودولة لداعش والجماعات الاسلاموية المتطرفة، وفي السودان دولة الدعم السريع وحلفائه من القبائل ودولة الجيش وجماعة البرهان ودولة دارفور وقبلهم دولة جنوب السودان، وفي فلسطين دولة حماس في غزة، وفي الجزائر يطالب أمازيغيون بدولة لهم في مناطقهم، وفي المغرب يطالب انفصاليون بدولة صحراوية في جنوب المغرب وكأن مجرد العيش في الصحراء يتحول لهوية وقومية ! الخ، وفي خضم كل ذلك يتحول الولاء من الدولة الوطنية الجامعة الى الطائفة والقبيلة.
في علم السياسية وفي الوضع الطبيعي فإن السلطة كأشخاص ومؤسسات وعلاقات سلطوية بين الحاكمين والمحكومين ليست الوطن، بل أداة تنفيذية للعمل على استقلال الوطن إن كان محتلا، وإدارته تطويره إن كان مستقلا، ولحمايته إن كان مهددا، ذلك أن هدف كل سلطة سياسية في أي مجتمع كلي هو تأمين المجتمع من المخاطر الخارجية وتحقيق الوفاق والانسجام الداخلي بين مكونات المجتمع، والسلطة أحد مكونات الدولة بالإضافة إلى الشعب والإقليم.
وفي جميع الحالات وبغض النظر عن مصادر شرعية السلطة السياسية القائمة يجب أن تكون العلاقة واضحة ما بين السلطة ذات السيادة والدولة والمجتمع، والانسجام بين هذه المكونات الثلاثة يُنتج ما يسمى الوطن كحاضنة مادية ومعنوية للمواطن وانتماء وشعور يحمله معه المواطن أينما حل وارتحل.
السلطة وحدها ليست وطنا والدولة وحدها ليست وطنا، فالمواطن يخضع لهما قانونيا ولكن بدون احساس بالانتماء وجدانيا، وحتى المجتمع قد لا يشكل وطنا لأبنائه في بعض الحالات، فكثير من الأفراد يشعرون بأنهم ساكنة وليسوا مواطنين حيث ينتابهم إحساس بالاغتراب الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتهم ويتطلعون للهجرة للخارج.
في المجتمعات الديمقراطية العقلانية وحيث إن من يتبوأ مواقع السلطة منتخبين من كل شرائح المجتمع ويعبرون عن رغباته وتطلعاته ويستطيع الشعب التحكم في ممارساتهم ومراقبتهم وتغييرهم بالانتخابات وضغط الرأي العام الخ، فإن علاقة تصالحية توجد ما بين السلطة والمجتمع والدولة والوطن، وبالتالي فإن الأحزاب والقوى التي تتنافس أو تتصارع للوصول إلى السلطة لا تخرج عن إطار المصلحة الوطنية حيث يبقى التنافس والصراع ضمن ثوابت ومرجعيات الأمة.
صحيح أن السلطة تمنح امتيازات وتحقق مصالح للنخب الحاكمة ولا تخلو أحيانا من فساد واستغلال نفوذ، ولكن هذه النخب في المقابل تعمل من أجل المصلحة الوطنية أو الوطن بما هو المشترك بين كل مكونات المجتمع من أفراد وجماعات وثقافات فرعية واحزاب سياسية.
عندما نتحدث عن السلطة السياسية في الدول الديمقراطية إنما نتحدث عن أجهزة ومؤسسات عسكرية أو مدنية بيروقراطية ثابتة لا تتغير مع كل رئيس أو حزب جديد وعن نخبة سياسية حاكمة تعمل بتكليف من الشعب لفترة زمنية ثم تتغير لتحل محلها نخبة جديدة ،دورة النخبة أو التداول على السلطة لا يسمح لمن هم في السلطة بترسيخ علاقات مصلحية أو طائفية دائمة حيث يوجد فصل ما بين السلطة والثروة ولا مكان للعصبوية الطائفية والاثنية حيث العلمانية والديمقراطية تنظم هذه الولاءات ومفهوم المواطنة يبطل مفعولها والقانون يكبح جماحها، وبالتالي فإن أصحاب الثروات والمكانات الاجتماعية الطائفية والعرقية في الغرب ليسوا أصحاب السلطة السياسية بالضرورة بل مجرد نخب اجتماعية واقتصادية وحتى إن تولوا السلطة فيحدث فصل بين إدارة ثرواتهم ومصالحهم الخاصة ومهامهم الوظيفية الرسمية، أما في عالمنا العربي وحيث لا يوجد تداول على السلطة إلا ضمن نطاق ضيق، وحيث ان النخب الحاكمة تستمر لعقود فإن اقترانا وتداخلا يحدث ما بين السلطة والثروة، ولتحمي السلطة المقترنة بالثروة نفسها تلجأ للاحتماء بالطائفة والقبيلة ولإفساد كبار رجال الجيش والأجهزة الامنية وقادة الرأي العام من قادة أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ورؤساء تحرير أهم الصحف ورجال دين الخ، بالمال والامتيازات ،كما تسعى لإنتاج نخب جديدة مستفيدة من السلطة القائمة لحمايتها وفي كثير من الحالات تكون نخب عائلية أو طائفية أو إثنية، وتصبح علاقة اعتمادية متبادلة ما بين الطرفين، ويصبح هدف السلطة والنخب التابعة ليس مصلحة الوطن بل الحفاظ على ما بيدهم من سلطة لأن السلطة هي التي تضمن الحفاظ على مصالحهم وحمايتهم من المحاسبة، وهذه الاطراف مستعدة للدخول في حرب اهلية ليس دفاعا عن الوطن بل دفاعا عن مصالحها ،أو دفاعا عن وطن تضع السلطة مواصفاته ومرتكزاته بحيث يتماها مع السلطة وبالتالي يصبح المساس بالسلطة مساسا وتهديدا لهذا الوطن، وطن السلطة وليس وطن الشعب