يبدو هذا السؤال مُلِحّاً من زوايا عدّة، ويبدو أنّ الجواب عن هذا السؤال سهل وبسيط في ضوء المُعلن في البرامج الانتخابية لكلٍّ من الفائز والمهزوم على حدٍّ سواء.
هكذا يبدو الأمر فعلاً، وهكذا يمكن قراءة المرحلة الجديدة التي يمثّلها نجاح الرئيس، وهذا هو المسار الذي سيسلكه، وهذه هي الخيارات المُتاحة له في الواقع التركي.
«جماعات الإسلام السياسي»، و»جماعات الغرب» في الداخل التركي، و»الغرب» من جهة، والبلدان العربية، وكذلك إسرائيل من جهة أخرى، وكذلك الدولة السورية، وروسيا الاتحادية، بل وإيران على وجه الدقّة والتحديد لهم قراءات مُتباينة لهذا الفوز، وهم جميعاً بانتظار المدى والدرجة التي سيُحاول من خلالها الرئيس الفائز المواءمة بين برنامجه الانتخابي المُعلن، وبين الإمكانيات «الواقعية» للسير عليها.
صحيحٌ أنّ مثل هذه المواءمة ستكون «جزئية» وليست حقيقية أو كاملة ــ وهذا هو شأن كلّ برنامجٍ انتخابي في الغالبية الساحقة من الحالات ــ لكنّ الصحيح، أيضاً، هو أن أردوغان كان قد استدار في المرحلة الأخيرة التي سبقت هذه الانتخابات، وأنّ هذه الاستدارة الكاملة، أو شبه الكاملة قد باتت تسهّل عليه هذه «المواءمة» في المستقبل.
أوّل الموهومين والواهمين بأنّ هذا «الفوز» سيعيد زعامة الرئيس الفائز للتيار الإسلاموي كلّه ــ السنّي من حيث الجوهر ــ وأنّ عهداً جديداً ينتظر هذا التيار في ضوء هذا الفوز. أوّل الواهمين هم «جماعات الإخوان المسلمين»، وخصوصاً الذين خسروا الكثير من المواقع، ومن الدور والمكانة التي كانوا يُمسِكُون بها، ويُسيطرون عليها، ويتحكّمون بمفاصلها السياسية والاجتماعية، وحتى الاقتصادية، والكثير من الهيمنة الثقافية التي ما زالوا يستحوذون عليها.
والحقيقة التي لا تريد أن تراها هذه الجماعات هي أن الرئيس أردوغان عاد لـ «الانضباط» للقواعد الديمقراطية في الصراع مع خصُومه السياسيين في تركيا، بالرغم من كلّ «الانقلابات» التي قام بها، وخصوصاً بعد حادثة «الانقلاب» الشهيرة التي استثمرها بهدف التحوُّل إلى النظام الرئاسي، وبهدف تصفية كلّ «خُصومه» في القاعدة الاجتماعية لـ «الإسلام السياسي التركي»، وفي الجيش والمؤسسات الأمنية.
وقد رغبت هذه الجماعات في أن ترى في الديمقراطية [فرصة المرّة الواحدة] للاستحواذ على السلطة والانقلاب على الديمقراطية نفسها، لم يفهم هؤلاء أنّ الرئيس أردوغان قد عاد إلى السنوات الأولى من عهد «حزب العدالة والتنمية» ــ وهذه هي إحدى أهمّ مفاصل الاستدارة التي تحدّثنا عنها مراراً ــ وهي المرحلة التي عبّر عنها الحزب بمقولة عظيمة في الواقع، والتي مفادها أنّ الإسلام في عُرف الحزب هو ثقافة للمجتمع وليس أيديولوجية سياسية!
لم يعد يرغب، وهو لم يعد قادراً، ولا يرى في العودة إلى دور «المُرشِد العام» سوى تجربة فاشلة أقحمته، وأقحمت تركيا في حساسيات سياسية حادّة مع البلدان الإقليمية العربية كلّها، وورّطت تركيا بصورةٍ «حمقاء» في الملفّ السوري.
والذي أراه هنا هو أن هذه الجماعات، إذا أرادت أن تستخلص العِبَر من التجربة التركية في نُسختها الأردوغانية تحديداً فإنّ عليها أن تغادر وإلى غير رجعة ساحة الديمقراطية «للمرة الواحدة»، وأن تعود لكي تكون جزءاً من لعبة الديمقراطية، ومن تداول السلطة، وقبول الآخر، وتحويل عملية الصراع الداخلي إلى صراعٍ دستوري، بالوسائل والآليات الدستورية، بصورةٍ قطعية ونهائية.
والذي أراه هو أن الرئيس أردوغان بصدد إعادة تركيا إلى «التوازن» الذي فقدته تركيا عندما «أقحمت» نفسها في الخطط المباشرة لـ «الغرب» فيما يتعلق بالملف السوري، وعندما «تحالفت» مع قطر ضد مصر والسعودية، وبلدان الخليج العربية الأخرى، وعندما «ذهب» إلى ليبيا لبناء «تحالفات» عسكرية وأمنية لأهداف اقتصادية بغطاء (أيديولوجي) في دعم «جماعات الإخوان» و»الميليشيات» التي تدور في فلكها.
أكبر دليل على ذلك هو الإعلان عن أنّ أوّل زيارة لأردوغان ستكون للعربية السعودية، والأحاديث المتواترة عن مصالحة تركية مصرية جادّة للغاية، والاستعداد السريع للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
أمّا «الغرب» فقد راهن على سقوط أردوغان، ولم يُخفِ دعمه لـ «المعارضة»، وعمل بكل السبل والأدوات على إزاحته من المشهد السياسي مستثمراً في بعض مظاهر الأزمة الاقتصادية التي تولّدت من السياسات الاقتصادية، وخصوصاً السياسات «النقدية» الخاطئة طوال فترة «الاضطراب» واللا توازن» التي اتسمت بها السياسة التركية على أكثر من مستوى، وعلى غير صعيد.
«الغرب» لم يكن معنياً، لا برفاهية الشعب التركي، ولا بقوّة الليرة التركية، ولم يكن معنياً، لا من قريبٍ ولا من بعيد بأيّ شأنٍ من شؤون «الديمقراطية» في تركيا، بقدر ما كان معنياً بأن تسوء العلاقات الروسية التركية، في مراهنة على إحداث فرقٍ «ما» في مسار الحرب التي يشنّها «الغرب» على الدولة الروسية، وإحداث فرقٍ «ما» في مسار التوجّهات التركية الجديدة بعد الاستدارة التاريخية الجديدة نحو التوازن، ونحو «تصفير» الأزمات التركية في منطقة الإقليم.
خسر «الغرب» كل المراهنات على هذا الصعيد، وخسرت إسرائيل (جزئياً) مراهنتها على تغيير الواقع السياسي في تركيا، بالرغم من أنّ عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى مستوى معين شكّلت قفزة نوعية بالمقارنة عمّا كانت عليه هذه العلاقة في مرحلة ما قبل الاستدارة التركية.
روسيا وإيران لم تخفيا تعاطفهما مع أردوغان، على عكس سورية التي ما زالت ترى في الموقف التركي موقفاً معادياً لكلّ المصالح الوطنية السورية، وموقفاً متواطئاً مع الولايات المتحدة ضد الدولة السورية، وخصوصاً لجهة الاحتلال التركي للأراضي السورية.
أمّا في إطار السياسة الداخلية فإنّ الأردوغانية ما زالت متردّدة في إحداث الاستدارة كاملة على مستويات مختلفة.
فقد تبين أنّ «حزب العدالة والتنمية» تراجع في نفوذه داخل وحول المدن التركية الكبيرة، وبقيت قوّته الرئيسة تتركّز في الريف التركي، وهو ما يكرّس طابعه «المحافظ» أوّلاً، واعتماده على قاعدة شعبية ستتخلّى عنه ما لم تتوجّه سياساته الاقتصادية نحو هذا الريف بالذات ثانياً، ما سيؤدّي «موضوعياً» إلى مزيدٍ من الخسارات والتراجعات في المناطق الحضرية، وفي مراكز الصناعات التركية.
وخسر الحزب عشرات آلاف الكوادر التي تقف إلى جانب أحمد داوود أوغلو بعد أن عمل الرئيس أردوغان على إبعاده، بل وإقصاء كامل تياره من الحزب. وأغلب الظنّ أن تيارات جديدة، وقيادات جديدة ستغادر صفوف الحزب إذا لم يتم اعتماد سياسات اقتصادية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح البرجوازية الصغيرة والمتوسّطة في المدن التركية الكبيرة، وفي أوساط شبابية صاعدة باتت لديها طموحات اقتصادية وسياسية وثقافية لم يعد باستطاعة «حزب العدالة والتنمية» أن يستجيب لها في ظلّ واقعه القائم.
وهناك مطالبات من داخل الحزب نفسه بمراجعات ضرورية، وبحياة حزبية مرنة وديمقراطية لم يتمكّن الحزب من توفيرها حتّى الآن.
إذا راجع «حزب العدالة والتنمية»، وتراجع، أيضاً، عن بعض النواقص والثغرات، فإنّ تركيا تصبح «موضوعياً» مرشّحة قويّة للالتحاق بركب الديمقراطيات «الغربية»، ليس من حيث المحتوى الثقافي لهذه الديمقراطيات، وذلك لأنّ هذا المحتوى سيظلّ مختلفاً بدرجةٍ أو أخرى، وفق التجربة الوطنية الخاصة بكل بلد من البلدان .. وإنما من حيث التحول إلى ديمقراطية راسخة، تتعزّز باستمرار، وقد تُفضي التطورات السياسية فيها إلى نظامٍ سياسي يتم تداول السلطة فيه بين كتلتين رئيستين، كما هو الحال في معظم الديمقراطيات «الغربية»، أو أن تصبح تركيا في غضون عدة سنوات فقط الدولة الشرقية الإسلامية الأولى التي تبني نظامها السياسي على أُسس «غربية»، وتبني سياساتها على اعتبارات وطنية (قومية) خارج منظومة التبعية، وهذا الأمر الأخير ــ كما الأوّل ــ هو إنجاز للشعب التركي، كبير ومهم وحاسم.