صادف يوم أمس ٢٨ ايار ذكرى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ، البيت المعنوي والسياسي والكفاحي لشعبنا الفلسطيني وعنوان وحدته ، والتي انطلقت بعد انعقاد المجلس الوطني الأول عام ١٩٦٤ في مدينة القدس لما تحمله هذه المدينة العاصمة من معاني التاريخ منذ الكنعانين الأوائل حتى يومنا هذا ولما تشكله من معنى يعكس مكانتها وهويتها السياسية وتراثها الثقافي والحضاري لنا نحن كشعب أصحاب هذه الأرض.

 

واليوم وبعد ٥٩ عاما من التأسيس يبقى السؤال الى اين نحن الان والى اين نحن ذاهبون ، وهل فعلا نعرف ما نريد ونسعى إلى تحقيقه وفق ما نعرفه ، أمام وضوح استراتيجية عدونا من تنفيذ منهج استعماري مستمر واجراءت وجرائم في ظل اجماع صهيوني وتأييد رسمي من الغرب ، في مسعى إلى تحقيق الوقائع الجديدة على الأرض وفرضها تدريجيا على العالم وفق مبداء الأمر الواقع de facto بالتعاطي معها ، دون حاجتهم إلى أصول الشرعية الدولية التي غابت عنا نحن منذ ٧٥ عاماً لتبقي الظلم التاريخي الواقع علينا وتسمح لهم بالإمعان أكثر في اضطهادنا .  

 

هنالك ضرورة ملحة في هذا السياق لأن نعرف أكثر عن أنفسنا وتحديدا في هذه الظروف ، فلا يوجد حاجة لمحاولات اعادة اكتشاف كروية الأرض أو العجلة من قبل البعض لمعرفة مدى اجرام هذا الأحتلال الاَن . فمنذ متى كان هنالك احتلال غير مجرم بالتاريخ منذ بداياته حتى اندحاره ؟ واين لم تكن هنالك مقاومة متعددة الأشكال كما وتضحيات من أجل دحر أي احتلال؟ الم تقدم حركات المقاومة الاوروبية في إطار جبهاتها الوطنية والشعبية ما يتوجب تقديمه من مقاومة في سبيل خلاصها من احتلال الوحش النازي ؟ الم يكن ذلك حقا لهم ؟ 

 

فكلما رأينا المزيد من الإمكانيات والقدرات التي قد تكون في جزء منها كامنة والمتعلقة بما نريد أن نكون اليوم بعد هذه المسيرة الكفاحية الطويلة ، فاننا سنقترب أكثر من واقعنا ومن تحقيق ما نريد من أهداف تأسست منظمة التحرير من أجلها.   

 

لكن الآن ومع ضرورات ان نُقيّم المسيرة وما يحدث اليوم بعد ستة عقود ، وهذا واجب من حيث ما تمليه علينا المسوؤلية الوطنية والتجدد الفكري ، فقد يخاف البعض منا ويفضلون تكرار انفسهم ، وإغماض اعينهم عن ما يدور ، بل ويفضلون الثقة في التقاليد المتوارثة واستحضار التاريخ القديم ، بدل ان ينظروا الى الامام ليروا ما هو قائم الآن وما قد يكون على وشك الحدوث ، وكيف لنا ان نحقق إنجازات جديدة تخدم رؤيتنا الوطنية في ظل تسارع المتغيرات من حولنا ، ومن اجل ان نعمل وننجح في فرض وقائعنا بدلأ من ردود الافعال .  

 

ان النظر إلى الأمور بمتغيراتها هو أصل الوصول الى المعرفة والحقيقة والتطور ، فهنالك من لا يرى التاريخ بحركته الدينامكية ، وهو يريد له السكون ، وهو أمر يتعارض مع قوانين الطبيعة . وهنالك من لا يرى أخطاء جديدة تتكرر عن الماضي لدينا القدرة على عدم تكرارها وارتكابها الآن من جديد .

 

لذا فاننا سنكون أروع وأكثر أمناً لو فتحنا أعيننا بروح من النقد الإيجابي لتجارب الماضي ورؤية الحاضر بواقعية ثورية حتى نتمكن من أن نكون كما يجب ان نكون وكي يكون المستقبل افضل ما يكون ولكي نكون قادرين معا على مواجهة تحديات اليوم ومتغيراته للحفاظ على المنظمة كاطار جبهوي وطني متجدد تمثيلي وشرعي وحيد واداة كفاحية نحو حقنا في تقرير المصير واستقلالنا الوطني واسقاط الفصل العنصري .

 

 لقد تأسست منظمة التحرير بجهود الرعيل الأول الذين انطلقوا ليحملوا وينقلوا شعبنا من رماد النكبة إلى نور الثورة المعاصرة لتكون المنظمة هي عنوان جامع للحركة الوطنية الفلسطينية وفق ميثاقها الوطني وكافة الادبيات اللاحقة ومن ضمنها وثيقة أعلان الأستقلال ، من أجل تحرير فلسطين الوطن والأنسان ، ومن أجل الخروج من عباءة بعض الانظمة العربية انذاك التي كانت تحاول أمتلاك القرار الفلسطيني ومصادرته والادعاء بتمثيل مصالحه خدمة لمصالحها . 

 

عقود طويلة مرت منذ ذلك التاريخ ، رغم ان تضحيات شعبنا في اطار حركته الوطنية كانت قد بدأت ارهاصاتها قبل ذلك بثلاثين عام منذ ثورة البراق . 

 

عقود قدم فيها شعبنا قوافل الشهداء والجرحى والاسرى والمبعدين ، عقود تبدلت فيها الظروف السياسية والانظمة العربية وشهد فيها العالم متغيرات كبيرة ادت إلى تبدل قطبية النظام العالمي وتغير اللاعبين على الساحة الدولية واحتلال ما تبقى من اراضي فلسطين التاريخية عام ١٩٦٧ وما ترتب من أوضاع على اثر توسع استكمال هذا الأحتلال الأستيطاني كاداة استعمارية بالمنطقة بهدف تطويعها بما ويتفق مع مصالح الغرب الأستعماري الذي لم يغير من حالة الظلم التاريخي الذي أوقعه على شعبنا منذ جريمة النكبة عام ١٩٤٨ وصولا لليوم الذي لم يعد فيه الحديث حول السلام والخيار الدولي القائم وفق مبدأ حل الدولتين من إمكانية لتحقيقه أمام اسقاطه وتدميره من جانب الحركة الصهيونية العالمية وحلفائها من دول الأستعمار ونفاقه وازدواجية معاييره ، وتصعيد جرائم الاحتلال بشكل يومي وتقطيع جغرافيتنا الواحدة الى كانتونات محاصرة بفعل الحواجز والجدار والمستوطنات واستمرار تنفيذ جريمة النكبة بأشكال مختلفة . 

 

ان تأجيل الوصول إلى حلول وطنية لعدد من التحديات الماثلة أمامنا ، والتعاطي مع محاولات فرض الغرب سياساته بما يسمى منهج ادارة أزمة الصراع دون حلها الجذري ، التي ينتهجها الغرب وعلى رأسه الادارات الأمريكية المتعاقبة حتى اليوم خاصة في هذه الظروف الدولية المتسارعة نحو التغيير ، قد ادخلنا سابقا وسيدخلنا اليوم ان تمكنوا من انجاح محاولاتهم مرة اخرى في نفق مظلم قد يصعب رؤية الضؤ في نهايته. 

 

ان مراكمة الظروف اللازمة من الحراك السياسي بالاستفادة من المقاومة الشعبية ، القائم على التمسك بضرورة إنهاء الأحتلال الأستيطاني كاملا ونظام الأبرتهايد الأستعماري كنتيجة واحدة يقوم عليها أي مسار تفاوضي سياسي ممكن برعاية دولية بعيدا عن الاحتكار الأمريكي المنحاز والمتورط هو الأمر الأهم اليوم بمقابل اي ضغوطات على منظمة التحرير من شأنها إعادة عجلة التاريخ للوراء بالقبول بتجميلات هنا أو هنالك لوجه هذا الأحتلال الاستعماري من خلال ما يسمى "بإعادة بناء الثقة" أو "تحسين الاوضاع المعيشية والاقتصادية للسكان" أمام الصلف إلاسرائيلي وتصاعد جرائم الاحتلال وبشاعة الفكر الصهيوني العنصري والفوقية اليهودية وانحدار حالة المجتمع الإسرائيلي اكثر إلى العنصرية والفاشية ورفضه لفكرة السلام اصلاً وسعية إلى تنفيذ المشروع الصهيوني كاملا على كل أرضنا الفلسطينية . فلا ثقة بين المضطهِد وشعب مضطهَد ، كما وأننا لسنا بسكان بل اصحاب أرض شرعيين اصلانيين .

 

ان مواجهة ذلك يتطلب التمسك برؤية إنهاء الأحتلال أولاً ، وصمود شعبنا وتمكينه من العيش الكريم وتمسكنا بارضنا واستعادة الثقة بين القاعدة والقيادة واعتماد إجراءات تُعزز من الآليات الديمقراطية والمشاركة الشعبية ودورها كمصدر للسلطات ، وتصعيد المقاومة الشعبية فعلاً لا قولاً والتي اقرتها القوانين الدولية للشعوب الخاضعة للاستعمار ، والعمل بالانفكاك عن الأحتلال بكل المعاني وتحديد العلاقة القائمة مع الاحتلال على قاعدة التناقض والصراع . 

 

ان ذلك يجب ان يترافق مع توسيع قاعدة تحالفاتنا مع الشعوب والقوى التقدمية وانصار الحرية والديمقراطية والسلام بالعالم والدول المناصرة لحقوقنا الوطنية ولقضايا العدالة والسلام والتقرب من التكتلات الاقتصادية الناشئة خاصة مع بدايات ظهور النظام الدولي الجديد الذي أصبحنا نرى تداعياته خاصة بالاقليم . كما والانتباه والعمل الجاد إلى اهمية تمتين وحدتنا الوطنية في إطار منظمة التحرير التي يتوجب توسيع قاعدتها الشبابية من الجيل الجديد الذي بات دون تنظيم في هذه المرحلة ، كما ايضا من القطاعات المجتمعية المدنية الواسعة اليوم بفعل دورها والمتغيرات المجتمعية الحاصلة ، دون انحصارها بفصائل العمل الوطني على أهمية دورها الكفاحي ، كما وتفعيل مؤسساتها خاصة بالشتات واماكن اللجؤ ودفع الحياة والحيوية بها كبيت معنوي جامع في غياب الدولة ، وكعنوان للتحرر الوطني والبناء الديمقراطي وتوحيد خطابها التحرري أمام العالم ، بعيدا عن استمرار لغة البيانات أمام استمرار الجرائم اليومية المرتكبة ، فالاحتلال لا ينفي مسؤوليته بل يجاهر بها أمام العالم الحُر . فالعالم بشعوبه يعنيه أن ينظر إلينا كأصحاب حق اقوياء نمثل استمرار مسيرة كفاح مرحلة التحرر الوطني برؤية واضحة .

 

ان منظمة التحرير التي دفع شعبنا خلال سنوات الأحتلال الطويلة والمظلمة ثمنا غاليا وواجبا وطنيا بالداخل والشتات من أجل صونها ووحدانية وشرعية تمثيلها لشعبنا في كل اماكن تواجده دون ان يقتصر ذلك على جزء من شعبنا ، وخاض المعارك في ساحات متعددة من أجل تثبيت شرعيتها والحفاظ على القرار الوطني المستقل بها بعيدا عن أي تدخلات أو ضغوط عليها ، لا يمكن اليوم لشعبها الذي حملها وحماها القبول بمحاولات فرض اية شروط عليه تنتقص من حقه الوطني السياسي والسيادي من جديد تحت مسميات عملية سلام زائفة ومنحازة تقوم على "مساواة الضحية بالجلاد" كما و"لحق اسرائيل بالدفاع عن نفسها" وباستدامة احتلالها ومصادرة حق اللاجئين بالعودة والسيادة على القدس ومقدساتها أو تمرير حكاية الإجراءات الأحادية الجانب دون تفاوض . 

فهنالك حقوق اساسية غير قابلة للتفاوض تتعلق بالثوابت الوطنية لمنظمة التحرير والاجماع الوطني .

 

جزء من تلك الضغوطات علينا والتدخلات في واقعها غير جادة تهدف الى الاستفادة فقط من الوقت واستدامة الأستيطان وتهويد القدس والاغوار والخليل وتعزيز نظام الفصل العنصري بعد هذه المسيرة الكفاحية الطويلة وإلغاء التراث الفكري الثوري لمنظمة التحرير ومحاولات إيجاد دمى البدائل لها ، الأمر الذي للأسف ينسجم من جهة اخرى مع محاولات القوى الظلامية او تيارات من حركة الاخوان المسلمين العالمية باستحداث تلك الدمى من البدائل المشبوهة بالتعاون مع قوى محلية ودولية لا تريد الخير لشعبنا وإنما لخدمة معتقدات واجندات ليس لها مكان في تراث وتاريخ حركتنا الوطنية ، تتمثل باقامة الأمارة أو بالنظر إلى قندهار بأهمية أكبر من بيت لحم ، بدائل مماثلة اسقطها شعبنا بوعيه ووحدته في مراحل سابقة .

 

 كما انه أصبح ضروريا اليوم مصارحة الشعب بعد سنوات من الانقلاب وتقييم تجارب وجولات المصالحة مع حركة حماس التي اضحت كقصص الف ليلة وليلة وبات شعبنا لا يرى الصدق فيها ولا ما يخدم المصلحة الوطنية العليا لشعبنا .

 

فما زالت حركة حماس تعمل خارج منظمة التحرير ولا تعترف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني ولا تخفي تطلعها للسيطرة على المنظمة أو الحلول محلها في تمثيل الشعب الفلسطيني . لذا فان على ابناء التيار الوطني في حماس أن يغلبوا رؤيتهم الوطنية على تلك الرؤية القائمة على اجندات اخوانية دولية تعمل على اعاقة تحررنا الوطني ، والعمل السريع من أجل الانضمام إلى المنظمة كما ايضا ابناء حركة الجهاد .

 

أن منظمة التحرير المستهدفة بتاريخها وتراثها الثوري اليوم ، فهي وقبل ان تكون الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا في كافة أماكن تواجده وتحظى بهذه المكانة العالمية منذ الرباط وهيئة الأمم عندما حمل الزعيم الخالد ابو عمار اليها غصن الزيتون في يد والبندقية في يد اخرى لتحصد بعدها الاعترافات الاممية المتتالية حتى اليوم . فهي قائدة الكفاح في مرحلة التحرر الوطني حتى وصولنا إلى دحر الأحتلال نحو حق تقرير المصير والاستقلال الوطني والحرية وعودة لاجئينا ضحايا جريمة النكبة وفق القرار ١٩٤ وإطلاق سراح الأسرى الابطال كذلك جثامين الشهداء من مقابر الأرقام والثلاجات .

 

منظمة التحرير هي من حافظ على نهج العمل الوطني الثوري ببعده الإنساني التقدمي وثقافتنا المتعددة والمنسجمة في اَن واحد ، وعلى الخلاف في إطار الوحدة . 

 

هي العنوان الذي يتوجب ان نستمر به إطارا وحدويا ديمقراطيا كفاحيا متجدداً ومتفاعلاً في خوض معاركنا على الجبهات المختلفة ، على الأرض وبالمحافل الدولية لتقديم دولة الاحتلال كنظام اجرام استعماري عنصري يمارس التطهير العرقي ، كما والعمل مع الأسرة الدولية التي أحيت وبأهمية ولأول مرة وبحضور الاخ ابو مازن بصفته رئيس منظمة التحرير والدولة المعلنة صاحبة العضوية المراقبة فيها ذكرى جريمة النكبة بالأمم المتحدة ، لنعمل مع هذه الأسرة بغض النظر عن الدول التي قاطعت والتي يتوجب فضح مواقفها ، من اجل عزل إسرائيل وتعليق عضويتها بالمنظمة الدولية ومؤسساتها المختلفة وفرض المحاسبة عليها .

كما واستمرار تصعيد النضال وفق المسارات المختلفة الكفاحية والسياسية والقانونية ، حتى وصول شعبنا إلى أهدافه في ظل ما يجري اليوم من تحول بالعلاقات الدولية وفي مضمون وشكل النظام العالمي تستدعي فهمها وتحديد موقعنا منها وتقيم تجربتنا الطويلة لبناء رؤية تتسم بوضوح المعالم والبرامج والأدوات حتى يكون لنا مكانا تحت الشمس في هذا العالم المتغير ، نحقق به أمانينا العادلة والمشروعة وبالمقدمة منها حقنا بتقرير المصير والاستقلال الوطني والعدالة أسوة بشعوب العالم الأخرى التي أنجزت تحررها الوطني والخلاص من أشكال الاستعمار والتمييز العنصري .