على عُجالة كبيرة عرضنا وتعرّضنا في سلسلة مقالات سبقت هذا المقال للأدوار الإقليمية لكل من: دولة الاحتلال الصهيوني وإيران وتركيا والعربية السعودية وجمهورية مصر العربية.
وإذا كان ضرورياً في ضوء كل ما تم التطرق إليه على هذا الصعيد، وفي ضوء ما تم استنباطه من كامل هذا الاستعراض، أن نحاول إجمال هذه الأدوار ووضعها في إطار من الرؤى والاستقراءات الاستشرافية لهذه الادوار في المستقبل المرئي على الأقل، سواء تعلّق الأمر بالصراع أو التنافس بين مختلف هذه الأدوار والدول فإن علينا ــ على ما يبدو ــ ربط هذا الصراع وهذا التنافس بالمتغيرات الدولية التي باتت تعصف بعالم اليوم، والتي بات من المؤكّد والثابت أنها تنذر بعالم جديد، وانبثاق حقبة تاريخية جديدة من مسار تطور البشرية.
عالم جديد، وعلاقات دولية جديدة، وتوازنات عالمية جديدة، وغير مسبوقة منذ عقود طويلة، بل ويمكن القول باطمئنان وثقة أن هذه المتغيرات أصبحت تؤسس لعالم مختلف عن كل المراحل التاريخية السابقة، وخصوصاً عن العوالم التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والثالثة، أيضاً، وهي الحرب التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي، وتكريس أكثر من عقدين كاملين من الأُحادية القطبية.
بل وأكثر من ذلك، فإن هذه المتغيرات الديناميكية المتسارعة تحولت إلى قاعدة، وأساس ومنطلق موضوعي إلى حد كبير، وإلى درجة حاسمة في تحديد مسار هذه الأدوار، وفي قراءة واستشراف خارطة الصراع والتنافس في كامل منطقة الإقليم.
وإذا أردنا وحاولنا ــ ونحن يجب أن نحاول ــ رؤية هذه المتغيرات فإن علينا أن نرى:
 أولاً، تتصاعد «نزعة» انقسام العالم بين الشرق والغرب، الغرب القديم والشرق الجديد، الشرق الصاعد، والغرب المتراجع، في وقتٍ تبدو فيه هذه المعادلة بالذات وكأنها حالة صراع بين صعود ما زال يحتمل درجات معينة من التعثر، وهي درجات لا تشكل مانعاً ولا كابحاً لوجهة سير النزعة والاتجاه بالنسبة للشرق الجديد، وبين غرب يتراجع من حيث النزعة والاتجاه، لكنه لم يعد قادراً على كبح «جماح» هذا التراجع، وبات «مضطراً» للجوء إلى مزيد من العدوانية للحفاظ على معدلات يمكن التعايش معها أو التكيف مع مقتضياتها (مؤقّتاً) لكي لا تؤدي إلى حروب مدمّرة، أو إلى انقلابات دراماتيكية في معادلة التوازن الدولية.
ثانياً، المظهر الأهم والأكبر هنا يتمثل في أن الصين حسمت، وإلى غير رجعة مسار الوصول إلى التوازن الاقتصادي مع الولايات المتحدة، وتجاوزها في غضون عقد واحد فقط، وحسمت روسيا مسار وقف التهديد الغربي لأمنها القومي، وهي بكل تأكيد ستكرّس هذا المسار، إمّا سلماً أو حرباً، وهي اتخذت قرارها التاريخي الجديد بوضع حد نهائي لهذا التهديد، وأغلب الظن أنها تقترب كثيراً من تحقيق هذا الهدف.
وعندما تكرس بصورة نهائية «إزالة هذا التهديد» ستعود روسيا لمعدلات من النمو الاقتصادي الكبير في ضوء امتلاكها لمقومات لا تمتلكها في عالم اليوم، أي دولة أخرى، إن كان على صعيد الثروات أو التطور العسكري أو حتى شبكة العلاقات الخاصة مع مناطق وأقاليم باتت تربطها مصالح إستراتيجية هائلة مع روسيا.
ثالثاً، في ضوء ذلك تمهّدت الأرضية، الآن وستتمهد أكثر في المدى المرئي لظهور تكتلات جديدة، إقليمية ودولية، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط بكل تأكيد، ليس على قاعدة (منظومة التبعية) التي استند إليها الغرب القديم، والشرق القديم (من خلال صيغة الاتحاد السوفييتي، ويتم الاستعاضة عن هذا النمط الذي ساد حتى الآن في «مفهوم» التكتلات الإقليمية بمنظومة جديدة تنتهي بموجبها ويتقلص فيها دور «السبع الكبار»، ويتحول إلى «العشرين الكبار»، وتتراجع حدة معادلة «المركز والأطراف» التي نظّر لها الراحل العظيم سمير أمين ــ والتي أثرى من خلالها الفكر الاقتصادي العالمي كله ــ لصالح قيام أدوار إقليمية، وتكتلات إقليمية، ودول إقليمية جديدة، أو صيغ جديدة لهذه الأدوار نابعة من هوامش لم تكن متوفرة لهذه الدول والتكتلات قبل المعادلة الدولية الراهنة. أقصد أن قاعدة المصالح أصبحت تتفوق على قاعدة التبعية، وأصبح بالإمكان الاستناد إلى المصالح في تحديد المواقف والأدوار، وأصبح «الحق» في «الاختيار» متاحاً بما لا يقاس أكثر من كل ما كانت توفره الهوامش الثانوية لمنظومة التبعية.
في ضوء ذلك كله كيف لنا أن نجمل خارطة الصراع والتنافس الإقليمي، وبالاستناد إلى جملة الوقائع التي تتكرس على الأرض في المعادلة الدولية، وفي جملة التطورات التي تشهدها الدول الإقليمية؟
إذا ما بدأنا بدولة الاحتلال الصهيوني فإن دورها الإقليمي أصبح يتراجع لأسباب ــ بائنة بينونة كبرى ــ في ضوء الفشل الذريع في تحويل موجة التطبيع الأخيرة، وفي تحويل «السلام الإبراهيمي» إلى مدخلها «السياسي» لتصفية القضية الفلسطينية ــ ربما في ضوء استفحال أزمتها الداخلية الطاحنة ــ وفي ضوء أن دورها الإقليمي أصبح يمرّ إجبارياً من بوابة العدوانية والتوسع والحروب الشاملة، بما في ذلك خيارات «اليمين الفاشي الجديد»، إمّا بالموت أو الخنوع أو الترحيل، وهي خيارات مغامرة وانتحارية، وهي في العقدين القادمين مقبلة على تحولات اجتماعية ستجعل منها دولة «دينية» ستفقد بموجبها (موضوعياً) الظهير الدولي الذي غطّى حتى الآن على كل جرائمها، وحال دون إخضاعها للمساءلة القانونية، واستمرّ في دعم «أمنها» لكي تبقى متفوقة ومسيطرة في كامل منطقة الإقليم.
ويصطدم الدور الإقليمي لدولة الاحتلال بمقاومة الشعب الفلسطيني، كما تصطدم إسرائيل بتهديدات أمنية كبيرة لم يعد سهلاً التعامل معها، أو ضمان الانتصار عليها.
وحتى أن طموحات إسرائيل ببيع منظومات الأمن والدفاع لم تعد بنفس «الزخم» السابق، والتحول إلى مركز لتصدير، وإعادة تصدير الغاز ليس بالسهولة، ولا بالسلاسة التي تتبجّح بها الحكومة الحالية في إسرائيل، بل إن «تفوقها» الجوّي بات في موضع الشكّ بسبب «الانقلاب» الذي أحدثته الطائرات المسيّرة، وبسبب تراجع الهالة الإعلامية التي حاولت أن تسوّق من خلالها منظومات الدفاع الجوّي الإسرائيلية.
وباختصار شديد فإن الدور الإقليمي لدولة الاحتلال المرتبط بالحروب والعدوانية والتوسع، وفي ظل بدايات التفكك الاجتماعي والسياسي، وفي ظل ما تم استشرافه من الواقع الاقتصادي فيها لا يؤهّلها إلى الدور الإقليمي الذي راهنت عليه. وأغلب الظن أنها عاجزة عن شنّ الحرب الشاملة على جبهات عدّة، وهي عاجزة عن «ضمان» الخروج الآمن منها، وهي فقدت كل مقوّمات المبادرة الإستراتيجية الهجومية التي اعتقدت دائماً بأنها «ضمانتها» للدور الإقليمي.
أما إيران فقد استطاعت أن تتجاوز عملية «الاحتواء» الكبيرة التي تعرضت لها، وتجاوزت الحرب الاقتصادية التي شُنّت عليها، وتمكنت من إقامة شبكة علاقات دولية، وإقليمية شكلت في مجملها جدران صد وحماية لنظامها السياسي، ومكنتها من تطوير قدرات عسكرية لا تستطيع الولايات المتحدة وإسرائيل تجاوزها بسهولة، أو من دون أثمان باهظة ليس من المؤكّد استعداد كل من أميركا وإسرائيل لدفعها، كما أنه ليس بمقدور أحد اليوم المراهنة على إنهاء دور إيران وقدرتها العسكرية دون أن يغامر بمصيره وبمصير مصالحه الحيوية.
وبهذا المعنى فإن إيران، وخصوصاً بعد المصالحة مع العربية السعودية باتت في موقع وموضع الدولة الأكثر قدرة على تحقيق مصالحها «القومية» والقيام بدورها الإقليمي الذي يؤمّن هذه المصالح بأقل درجة، بل ودرجات من المخاطرة التي كان ينطوي عليها دورها قبل المصالحة.
ولهذا فإن إيران مُقدِمَة وقادمة على دور إقليمي نشط وفعّال أكثر من أيّ دولة أخرى في الإقليم. أما تركيا فإن خياراتها أصبحت واضحة وهي العودة إلى «صفر مشاكل»، لكي تقترب من الشرق لتحسين شروط تواجدها وعلاقاتها بالغرب، وتقترب من الغرب بالقدر الذي يبقيها في دائرة الاستفادة القصوى من علاقاتها بالشرق، وهي ستبقى هناك بصرف النظر عن الفائز في الانتخابات. أقصد أن الدور الإقليمي لتركيا جرى تحديده، وميدان فعله وتأثيره، وعادت تركيا موضوعياً إلى فلسفة الدكتور أحمد داوود أوغلو.
والعربية السعودية التي تطمع بدور إقليمي قادم ستحتاج إلى عامل الزمن المطلوب لتحديث البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وستحتاج إلى مصر الجيش والدولة والمكانة، وستكون دولة إقليمية كبيرة وهامة وحاسمة في كل منطقة الإقليم إذا أجادت وابتكرت صيغة للتحالف الإستراتيجي الفاعل مع مصر والأردن والمغرب، وقد يتحول هذا الدور إلى الدور الأكبر والأهم في كل الإقليم، وقد يتحول ليصبح المظهر الرئيسي للتوازن الإقليمي، وذلك إلى أن تتمكن مصر من استعادة دورها الذي ستسلّم به منطقة الإقليم كلها، بما في ذلك العربية السعودية، لأن نهضة مصر في حينه ستكون في مصلحة العربية السعودية.