الريح الجديدة التي هبّت على الإقليم منذ عامين تقريباً، ما زالت "تعبث" بخرائط التحالفات والاصطفافات التي ميّزت العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.. مراكز الإقليم وعواصمه الكبرى بدأت تستحدث استدارات كبرى في مواقفها ومواقعها وأولوياتها.. نهج جديد في إدارة وتنظيم العلاقات الإقليمية وطرق حلّ النزاعات بين الأطراف المختلفة.. وإن ظل الحال على هذا المنوال، فليس مستبعداً أبداً أن تشهد السنوات القليلة القادمة هدأة الجبهات وإغلاق ملفات دول الأزمات المفتوحة.
بدأت القصة بالاستدارة التركية صوب دول الخليج العربي، طُوي عقدٌ كامل من التنازع على النفوذ وحروب الوكالة ولغة "الحسم" وأدواتها الخشنة، ولقد كان عقداً مكلفاً على مختلف الأفرقاء المحليين والإقليميين، واتسع نطاق الاستدارات التركية لتشمل إسرائيل، بعد سنوات من التراشق السياسي والإعلامي، وتتوّج بشق طريق للمصالحة التركية - المصرية بلقاء أردوغان - السيسي في الدوحة، ولاحقاً الزيارة الإنسانية لسامح شكري إلى تركيا التي مهدت بدورها الطريق لزيارة سياسية بامتياز، قام بها مؤخراً أحمد جاويش أوغلو للعاصمة المصرية.
حتى العلاقات السورية التركية التي اتسمت بأشد درجات العداء، بدأت تدخل في مرحلة التعافي، على الرغم من اتساع الفجوة بين الطرفين، وتعثر المحاولات الروسية الإيرانية، لجسرها كما اتضح بنتيجة زيارة الأسد لموسكو، ورفضه لقاء أردوغان، قبل الوصول إلى "جدول زمني" متفق عليه لسحب القوات التركية من شمال سورية، ووقف دعم أنقرة لفصائل وميليشيات سورية معارضة.. والمرجح أن عودة المياه إلى مجاريها هي النتيجة الأكثر ترجيحاً، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات التركية في أيار القادم، حتى وإن كانت وتائر هذه العودة وشروطها ستتباين وستتأثر بمخرجات صناديق الاقتراع.
الاتفاق السعودي - الإيراني مؤشر نوعي آخر على حركة الاستدارات النشطة في الإقليم، ومما لا شك فيه أن الريح الجديدة التي تهبّ على الرياض وطهران، ستُلقي بظلال إيجابية على ديناميات وعلاقات القوى على ضفتَي الخليج العربي، مثلما سترخي بظلالها الإيجابية كذلك على مختلف أزمات الإقليم، وإن بعد حين، بتفاوت من ساحة إلى أخرى.
زيارة شمخاني لأبو ظبي مؤشر نوعي آخر على حركة الإقليم وحراكاته. صحيح أن الزيارة لا "تؤسس" لحقبة جديدة في العلاقات بين إيران والإمارات، التي شهدت انتعاشاً ملموساً على مسارات اقتصادية وتجارية وسياسية وأمنية عدة خلال السنوات الماضية، إلا أنها تستكمل دائرة الحوار العربي (الخليجي) - الإيراني، لا سيما أن الأنباء تتحدث عن مسار موازٍ بين المنامة وطهران.
تأتي هذه التطورات في ظل اتساع دائرة الانفتاح العربي على سورية، بعد عقد من القطع والقطعية، بدأتها الإمارات بزيارات متبادلة مع دمشق، رفيعة المستوى، وعودة السفارات والسفراء، واستكملتها البحرين، وشجّع ذلك عُمان على رفع مستويات التواصل مع دمشق باستقبال الأسد في مسقط، ولاحقاً المقاربة السعودية الجديدة حيال سورية، والتي وإن كانت معالمها لم تتضح بعد، إلا أن المؤشرات كافة تشير إلى التحاق الرياض بركب الانفتاح العربي على دمشق، وليس مستبعداً أن تكون القمة العربية المنتظرة في الرياض الباب الأوسع لترسيم عودة دمشق إلى مظلة الجامعة العربية.
الإقليم برمّته يتغير، وتتبدل معه أولويات القوى الفاعلة ومقارباتها، وتتعدّل خرائط تحالفاتها في ضوء ذلك كله، وتلعب "الأولويات الداخلية" لدوله، الاقتصادية أساساً، دوراً يزداد تعاظماً في تقرير وجهة واتجاه سياساتها الخارجية، وإن كانت ثمة دوافع "محلية" تقف خلف هذه التحولات والتبدلات، إلا أنه يتعين ملاحظة ارتباط هذه التحولات بالتغيرات التي تجري على الساحة الدولية، و"اللحظة الانتقالية" التي يمر بها النظام العالمي، بين قديم يأبى المغادرة (نظام القطب الواحد)، وجديد يجد صعوبة في الانبثاق والتبلور (نظام قائم على التعددية القطبية).
وبدل أن تُفاجأ المنطقة بالحاجة للتكيف مع معطيات وقواعد النظام الجديد، كما حصل في مرات سابقة، فإن سياسات ومقاربات عواصمها وحواضرها، تبدو اليوم "استباقية" إلى حد كبير، وتجري حساباتها واستعدادها، في الوقت المناسب، وليس بعد فوات الأوان.