كم كان جميلاً أن تتوفر فسحة من الوقت خارج الحصار وأزماته اللا متناهية! فسحة أتاحها عازفو الأوركسترا العربية الفلسطينية، حين قاموا باستدعاء هدوء وفرح سرعان ما تغلغلا في النفوس وأحدثا فرقا متعاظما.
توحد مئات من الحضور مع سبعين عازفا وعازفة قدموا مقطوعاتهم الموسيقية العذبة والآسرة باقتدار لافت.
في ذلك اليوم شهد مسرح نسيب شاهين في جامعة بيرزيت فصلا آخر من المواجهة والتنازع، بين الإبداع والتحضر، والمزاعم النافية لهما، بين ذائقة جمالية تصنعها آلات الموسيقى وتسمو في الوجدان، وكآبة تصنعها آلات الحرب وتحشر أصحابها في معتقلات صغيرة وكبيرة، بين إرادة التحدي بلغة الموسيقى، وغطرسة القوة بلغة القمع..بين مال الإخضاع، ومال التحرر، بين الحرية والتحرر، وإرهاب الدولة، بين الحلم الجميل، وكابوس الديمغرافيا، بين الحب والحياة، والكراهية والموت.
في هذه المواجهة فاز الشق الأول من المعادلة، فازت الموسيقى والموسيقيون والأوركسترا، وهزمت الكراهية.   
نجحت أوركسترا معهد إدوارد سعيد، في تقديم موسيقيين فلسطينيين بين طلبة وأساتذة ومؤلفين، عبر 13 مقطوعة موسيقية بعضها جديد والبعض الآخر بني على الألحان الفلكلورية والوطنية.
قدم المايسترو سهيل خوري مقطوعاته الموسيقية ومقطوعات كوكبة من المؤلفين الموسيقيين وهم: سيمون شاهين، يوسف زايد، تامر ساحوري، عيسى بولص، خالد صدوق، ضياء رشماوي، طارق عبوشي. وقد أضافوا للموسيقى الفلسطينية زخما جديدا، من زاوية أعداد العازفين من كل آلة من الآلات.
وكان لافتا تفاعل الجمهور مع المقطوعات الموسيقية وبخاصة مع مقطوعة فنونيات/ سهيل خوري، عزا معهد إدوارد سعيد ذلك، في معرض تعليقه على الفعالية "كون الألحان تمس الكثير من الحاضرين وكانت جزءا حيويا من ذاكرتهم، أو ذاكرات ذويهم وقد ساهم الانسجام والحماسة اللذان قدمت فيهما الفرقة للمقطوعات".
فعلا انتاب المشاهد السامع أن العازفين استحضروا تراثنا المحمل بجماليات تعزز التآلف بين الناس وعلاقاتهم الحميمية مع بعضهم البعض التي لا تنفصل عن العلاقة بالمكان.
الموسيقيون الفلسطينيون في الحاضر لم يأتوا من فراغ بل جاؤوا امتدادا للموسيقيين منذ أواخر العهد العثماني مرورا بمرحلة الاستعمار البريطاني وما بعد النكبة. كانت البدايات مع أوغستين لاما أحد أوائل الذين تعلموا تراتيل مأخوذة من بتهوفن وباخ وموزارت وهايدن. وقام بتعليم الموسيقى الكلاسيكية. وبرز سلفادور عرنيطة الذي درس الموسيقى في إيطاليا، ولعب دورا في نشر الموسيقى قبل النكبة.
يقول الموسيقي الفلسطيني سليم سحاب الذي درس الموسيقى في الاتحاد السوفييتي في مقابلة مع الزميل نصري حجاج لمجلة راية الاستقلال: "قدت أوركسترا قدمت كونشرتو الكمنجة لمندلسون والسمفونية الرابعة وقطعة للموسيقار العبقري الفلسطيني سلفادور عرنيطة بعنوان الوثبة وقد أذهلت هذه القطعة الموسيقية الجمهور والنقاد الموسيقيين، وقالوا، لقد جعلتنا نكتشف الشرق من جديد" ويضيف سحاب: كانت فلسطين تجمع موسيقى مصر والمغرب ولبنان والمشرق، لكن إسرائيل قطعت الموسيقى الفلسطينية عن تطورها، بتشريد الموسيقيين الفلسطينيين".
وكان من أبرز الموسيقيين الفلسطينيين يوسف البتروني، روحي الخماش، محمد غازي، يحيى اللبابيدي، رياض البندك، يحيى السعودي، إضافة لعرنيطة ولاما وسحاب".
وواصلت كوكبة أخرى مشوار الموسيقى أمثال ريما ترزي، حسين نازك، سعيد مراد، والإخوة جبران، وسيمون شاهين، وسهيل خوري الذي أحدث نقلة كبيرة من خلال مأسسة الموسيقى عبر تأسيس المعهد الوطني للموسيقى الذي أصبح اسمه معهد إدوارد سعيد للموسيقى.
هذا المعهد فتح المجال أمام تطوير مناهج الموسيقى وتخريج عازفين محترفين وكتابة أعمال موسيقية من خلال مؤلفين موسيقيين. وهناك مؤسسات موسيقية أو تعنى بالموسيقى كالكمنجاتي ونوا في رام الله وبيت الموسيقى في شفا عمرو وغيرها. الموسيقى الفلسطينية التي لها تراث موسيقي مهم، والتي تطورت بالاستناد لمدارس موسيقية عربية وعالمية ستبقى رافعة للتحرر الوطني والاجتماعي من خلال دورها في صياغة الذائقة الجمالية وربطها الأصالة بالحداثة. يجوز القول، ما بقيت الموسيقى تفعل فعلها، يكون المستقبل مفتوحا على التقدم.
جاء في تذاكر الدعوة لحضور عرض الأوركسترا العربية في مسرح نسيب عزيز شاهين، العبارة الآتية: رداً على شروط التمويل الأجنبي المُجرّم للنضال الفلسطيني ادعموا مؤسساتكم الرافضة لهذا التمويل. مؤسسات الموسيقى الفلسطينية وغيرها من مؤسسات ثقافية وفنية تتعرض لابتزاز يشوش رسالتها ويضعف علاقتها بمجتمعها، ويمس بالكرامة الوطنية والاستقلالية. عنوان الابتزاز، اشتراط التمويل بتوقيع وثيقة نبذ الإرهاب. الإرهاب بحسب الوثيقة يعتمد على التعريف الإسرائيلي الذي يعتبر كل نضال ضد الاحتلال إرهابا، وهو بهذا التعريف يشيطن كل أشكال النضال.
هناك من يعتبر "البي دي إس" معادية للسامية لأنها تدعو إلى فرض عقوبات على دولة الاحتلال، وهناك من يعتبر الذهاب الفلسطيني إلى المحكمة الجنائية إرهابا دبلوماسيا. ويلخص القرار الإسرائيلي باعتبار 6 منظمات حقوقية وعاملة في المجال الصحي والتنموي منظمات إرهابية، التعريف الإسرائيلي للإرهاب، وهو تحويل الاحتلال إلى عمل مشروع لا يجوز مقاومته ومعارضته والاحتجاج عليه، وتحويل نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال إلى عمل إرهابي غير مشروع.
القرار الإسرائيلي بقرصنة أموال الضرائب ومصادرة الأموال المخصصة شهريا لأسر الشهداء والمعتقلين والجرحى، باعتبارها أموالا داعمة ومشجعة للإرهاب، يلخص المفهوم الإسرائيلي للإرهاب. وهو مفهوم متناقض مع القانون الدولي ومع ميثاق الأمم المتحدة ومع مئات القرارات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان الداعمة كلها لحق الشعب الفلسطيني بالنضال ضد الاحتلال بمختلف الأشكال. المفهوم الإسرائيلي للإرهاب هو عينه إرهاب لأنه يهدد مصير شعب بأكمله. قد يكون الموقف الإسرائيلي منسجما مع أيديولوجيا دينية متعصبة بديلة للقانون الدولي. ولكن الغرابة كل الغرابة في المواقف الدولية التي تساوقت بشكل أو بآخر مع المفهوم الإسرائيلي العدمي.
حسنا فعل معهد إدوارد سعيد ومنظمات غير حكومية أخرى برفضهم التوقيع على نبذ الإرهاب، وشروط التمويل التي تنال من الكرامة الوطنية. ولا شك في أن هذا الموقف الشجاع والمسؤول كان منسجما مع رسالة الفن والإبداع والثقافة، رسالة حقوق الإنسان وحق تقرير المصير دون تدخل أو وصاية، وحسنا كان بديل التمويل بالاعتماد على المواطنين وعلى تطوير الموارد من داخل المجتمع. لكن سياسة الاعتماد على الذات تستدعي نوعا من الشراكة في الأعباء وتوزيعها بشكل عادل. ليس صدفة أن تبادر الموسيقى والفنون إلى رفض الغبن وبناء التفوق المعنوي والأخلاقي.