مأساة أخرى، تقشعرّ لها أبدان، من يملك ضميراً أو بعضاً من ضمير.
واحد وعشرون فرداً من عائلة أبو ريا، قضوا في حادثٍ، ليس استثنائياً في ظروفٍ كالتي يعيشها سكان قطاع غزة.
كثيراً ابتعدت الشائعات عن وضع اليد على أسباب وأبعاد تلك المأساة، وثمة من بادر إلى تسييس الحادثة المؤلمة، الأمر الذي يحصل في كثيرٍ من الأحيان، كمؤشّر على مدى الخطورة التي ينطوي عليها استمرار الانقسام بين الفلسطينيين.
لا ينتظر البعض نتائج لجان التحقيق، التي تتابع الأمر بسرعة وعن كثب ما يعكس عمق أزمة الثقة، وسيطرة الشكوك، على من يقوم بمثل هذه التحقيقات.
ينسى البعض، ويتناسى بعض آخر، أن ثمة جهات رقابية من المجتمع المدني، وحتى لو غاب المجلس التشريعي عن القيام بهذا الدور، فإن منظمات المجتمع المدني لا يمكنها أن تتخلّى عن واجباتها الرقابية، وملاحقة تفاصيل الحدث بكثير من المهنية، والشفافية والجرأة.
الشائعات مرض خبيث، يُعرِّض المجتمع، لتناقضات ومشاحنات لا أساس موضوعياً لها، ويعمّق أزمة الثقة بين أفراده، وبين المواطن والسلطات القائمة بإنفاذ القانون، ولا تخدم سوى الاحتلال، الذي يبدع في نشر هذا المرض.
قد ينطوي الحدث المأساوي على بعض التفاصيل، التي تحتاج إلى إيضاح، وحين لا يتعلق الأمر بحوادث انتحار، أو اغتيال أو تفجير، وكل ذلك بعيد عمّا وقع، فإن البحث ينبغي أن يتجه نحو الأسباب الحقيقية التي قد يهملها البعض عن غير قصد.
السؤال الأساسي هو: ما الذي يجعل هذا الحريق يمتد حتى جاء على كل ما ومن في المنزل؟ من بين عديد وربما معظم إن لم يكن كل الروايات يجري الحديث عن وجود كمية كبيرة من البنزين داخل المنزل.
لماذا توجد مثل هذه الكمية من البنزين، وهل كانت نتائج الكارثة ستكون مفجعة بهذا الشكل، لو لم تكن مثل هذه المادة موجودة في المنزل؟
يعود الأساس إلى الحصار الذي يفرضه الاحتلال على قطاع غزة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، والذي حوّل ويحوّل حياة الناس في القطاع إلى مأساة مستمرة، وقابلة لتوليد المزيد من الكوارث.
لا يتم تخزين المحروقات في المنازل لأسباب تجارية، فأسعارها مستقرة إلى حد كبير، لا تسمح باستثمار هذه المحروقات لتحقيق الربح الناجم عن فروق الأسعار.
من المؤكد إذاً أن تخزين المحروقات له علاقة بالحاجة للمولّدات الكهربائية، التي يلجأ إليها الناس، بسبب الانقطاعات الكبيرة في الكهرباء.
وحين تبحث عن سبب لجوء الناس للشموع أو الفحم أو المولّدات الكهربائية فإن أصابع الاتهام تذهب نحو طرفٍ واحد وهو الاحتلال الصهيوني.
قبل سنوات أصدر البنك الدولي تقريراً، يشير فيه إلى أن قطاع غزة لن يكون صالحاً للحياة بحلول العام 2020، وها هو الزمن يمر ولم يتحرك أحد في العالم، لتحسين أوضاع الناس، وجعل القطاع قابلاً للحدّ الأدنى من الحياة الآدمية.
الأمر لا يقف عند حدود النقص الفادح في إمدادات الطاقة الكهربائية، بل يمتد ليشمل كل جوانب الحياة.
العالم يعرف أن المياه التي تصل إلى البيوت غير قابلة أو صالحة للشرب أو الطبخ، وهي، أيضاً، غير صالحة لسقاية المزروعات، حيث تظهر الملوحة في ثمار الأشجار، والخضراوات بكل أنواعها.
هل نتحدث عن الصحة، والنقص الفادح في الأدوية والمستلزمات الطبية، والأجهزة الحديثة، وعدم توفر قطع الغيار لإصلاح الأجهزة البسيطة المتوفرة، وتقادم عليها الزمن.
الأطباء في غزة يخيطون بأصابع من ذهب جهدهم لإنقاذ المرضى، كما تخيط النساء الفلسطينيات أثوابهن المطرّزة. ثمة أطباء أكفاء مشهود لهم، في قطاع غزة، ولكن تنقصهم المعدات والأجهزة اللازمة، خصوصاً المتعلقة بالتشخيص.
هل نتحدث عن الدفاع المدني، الذي يتهمه البعض بالتقصير في الوصول إلى مكان الكارثة التي أصابت عائلة أبو ريا، وهل يعرف الناس أي حالٍ عليه آليات الدفاع المدني، وأدواته؟
لا تسمح إسرائيل بإدخال الآليات، فمنذ خمسة عشر عاماً لم يصل القطاع إلّا سيّارة واحدة، بينما قصفت إسرائيل وعطّلت ثماني وأربعين آلية خلال حروبها على القطاع.
هل يعلم الناس أن أطقم الدفاع المدني يفتقرون إلى السترات الواقية من الحرائق، ما يعرّضهم للخطر، وهم يقومون بأعمالهم؟
أهل غزة ليسوا قوم يأجوج ومأجوج، الذين ورد ذكرهم في سورة «الكهف»، إنهم بشر يملكون كل مقوّمات البشر، ويتمتعون بحساسية عالية، لكنهم يفتقرون إلى مقوّمات الحياة الطبيعية بحدودها الدنيا.
غزة في ظروف الحصار المشدّد، الذي تفرضه إسرائيل، كعقاب جماعي، بما يخالف القوانين والقيم الدولية، غزة هذه معرّضة لأن تشهد المزيد من الكوارث الإنسانية، فكل ما يأكله ويشربه أهلها ملوّث.
هل نذكّر العالم، بالمجازر التي ارتكبتها إسرائيل خلال عدواناتها على قطاع غزة، حيث شُطبت عائلات بأكملها من السجّل المدني، كما هو حال عائلة أبو ريا.
القائمة طويلة وتشمل 25 عائلة قضى أكثر من ثلاثة أفراد منها على يد القوات الإسرائيلية. في العام 2014 أصيب ثلاث عشرة عائلة، بفاجعة فقد أكثر من ثلاثة من أفرادها وفي العام 2021 عشر أسر، بما في ذلك فقد كل العائلة.
السجّل طافح بمثل هذه الجرائم، التي يندى لها جبين العالم، لكن العالم لم يحرّك ساكناً حتى الآن إزاء مساءلة وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم.
لا تكفي عبارات التعزية والتعبير عن الأسى، والتضامن، وحتى إدانة المجرم، فلقد طفح كيل الشعب الفلسطيني، بينما يستمر العالم في دعم الاحتلال والتستّر على جرائمه، بل وتشجيعه على الاستمرار.
في غزة الناس يعيشون بدافع البقاء وحبّ الحياة، والتمسُّك بالإرادة، والتفاؤل بهزيمة كل من يعمل على سياسة القتل البطيء، والقتل المباشر.
لا ينتظر الناس صحوة المجتمع الدولي، ولا يراهنون على وصول المساعدات، لكنهم يعتبون أوّلاً على أهلهم، الذين عليهم أن يغادروا ألاعيب السياسة وتناقضاتها، يكفي الناس، أن ينتهي الانقسام، وأن تعود اللُّحمة للبيت الفلسطيني، فهو الدواء لأمراضهم، وهو القوة التي تمدهم بإرادة قهر المخططات والأهداف الاحتلالية.