تتكرّر، منذ أكثر من عقدين على الأقل، مقولة "إسرائيل لا تريد السلام مع الفلسطينيين" على ألسنة إسرائيليين كُثُر، ولا سيما من أوساط الأكاديميين. ولعلّ أخيرهم أستاذ القانون المدني المقارن في جامعة تل أبيب، مِني ماوتنر، الذي قدّم في هذا الشأن مداخلة اعتمدت على قدر كبير من التوثيق لما تُسمّى "مسيرة السلام"، ظهرت في صحيفة هآرتس أخيرًا، وشدّد فيها، من بين أمور أخرى، على أن كثيرين غيره سبقوه في تبنّي هذه المقولة وتسويغها ونشرها، وعلى أن أقصى ما كان ينبغي به أن يفعله أن يستعيد ما بدر من بعضهم وأن يصله بوقائع من الفترة الحالية، سواء من حيث مبناها، أو من حيث معناها.

ومن هؤلاء السابقين، مثلًا، المستشرق الإسرائيلي، إيلي بوديه، الذي كتب في أواخر 2010 أن السلام هو حُلم ربما، ولكنه ليس حلم الإسرائيليين بالمُطلق، وأكّد أنه حان الوقت للاعتراف بحقيقة أن إسرائيل تستخدم خطاب السلام صباح مساء، غير أنها من الناحية العملية لا تساهم في تحقيقه إلا بشكل ضئيل للغاية.

ويمكن القول عمومًا إن كلّ واحد من هؤلاء يضع ذلك الخطاب وما يتم القيام بموازاته من ممارسات فعلية في مركز تحليله على نحوٍ تنجم عنه تعرية جوهره. وثمة من بينهم من يجزم كذلك بأن الوعي الإسرائيلي حيال السلام جرى العمل على بنائه مثل الخطاب، بغية جعله وعيًا ذرائعيًا وليس حقيقيًا. وفي هذا المجال، يُناط دور كبير باللغة.

ومثلما سبق لصاحب هذا المقال أن أشار مرات عديدة، لا تشكل اللغة السياسية في إسرائيل معينًا على فهم المجريات الحقيقية التي تحدث فيها، بل على العكس تطمس دلالاتٍ كثيرة، وتخفي، وتشوّه، بالأساس حين يدور الحديث حول كلمات ومصطلحات على غرار السلام والحرب. وتتعدّد الحُجج التي يوردها هؤلاء الأكاديميون لإثبات عدم رغبة إسرائيل في السلام. ويكفي أن نتوقف عند اثنتين منها:

الأولى، منذ عام 2000 وجدت إسرائيل نفسها ماثلة أمام عدد غير قليلٍ من مبادرات عربية للتقدّم نحو السلام، وكان أبرزها مبادرة السلام العربية التي طرحتها القمة العربية في بيروت في أواخر مارس/ آذار 2002، ووصفها أحد أساتذة التاريخ الإسرائيليين في حينه، وعلى خلفية ما انتهت إليه قمة كامب ديفيد الإسرائيلية - الفلسطينية من فشل ذريع، بأنها "واحدة من أكثر مبادرات السلام أهمية في تاريخ الصراع الصهيوني - العربي". بيد أن إسرائيل، بحكوماتها المختلفة، ردّت على ذلك كله ببرود ولا مبالاة وعلى نحو لا يمكن اعتباره إلا بأنه مُمنهج. أما الحجة الثانية المهمّة، فهي أن إسرائيل لم تقترح، في أي يوم، مبادرة خاصة بها تنطوي على ما يمكن أن يشير إلى رغبتها في السلام.

ولا تقلّ الاستنتاجات المستخلصة من هذا التشخيص إثارةً. ومنها أن عدم رغبة إسرائيل في السلام هو تحصيل حاصل معرفة اليمين، الذي يحكمها بشكل متتالٍ منذ نحو عقد ونصف عقد، بما يريده بالضبط، حتى لو لم يقل ذلك بوضوح، وهو استمرار الاحتفاظ بأراضي الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان.

وبلغة ماوتنر: يعيش اليمين الإسرائيلي منذ عشرات الأعوام في إطار قرار حاسم، فحواه أن مواصلة الاحتفاظ بمناطق الضفة الغربية أفضل من التوصل إلى سلام يلزم بإخلاء كل هذه المناطق تقريبًا وتقسيم القدس.

والاستنتاج الآخر مبنيّ على ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 من مظاهر مقاومة منطلقة من القاعدة على مدار نصف العام الفائت، التي تبرهن مرة أخرى على أنه يستحيل قمع استعداد الفلسطينيين للتضحية بحياتهم من أجل إنهاء الاحتلال والظفر بالاستقلال.

والاستنتاج الثالث مؤدّاه أنه من ناحية الأهداف التي تسعى إسرائيل لتحقيقها، ليس ثمة فرق بين رئيس الحكومة الحالي يائير لبيد ووزير دفاعه، بني غانتس، وبين بنيامين نتنياهو وحتى بتسلئيل سموتريتش من "الصهيونية الدينية". وهو استنتاج يغيب للأسف عن أذهان بعض السياسيين العرب في أراضي 1948 أو يجري تغييبه عمدًا.