الأحداث المؤسفة التي شهدتها مدينة نابلس مساء أمس (الاثنين، وأولّ من أمس الثلاثاء)، تنطوي على مؤشّرات خطيرة، نحو تصدّع العلاقات الوطنية، المتصدّعة أصلاً، وتضاعف الفجوة بين السلطة الوطنية وأجهزتها الأمنية وبين الناس.
تزداد خطورة الأحداث، حين يتصل الأمر، بقيام الأجهزة الأمنية باعتقال اثنين من المقاومين المطلوبين لإسرائيل، وفي ضوء مطالبات إسرائيلية بتفعيل دور السلطة في ضبط الأوضاع، وتحقيق الهدوء في الضفة الغربية، خصوصاً في نابلس وجنين.
معلوم أن السلطة الوطنية لم تقرّر عملياً وقف التنسيق الأمني، لكن ما حدث وما تحاول إسرائيل أن تفعله لوضع الفلسطينيين في مواجهة بعضهم بعضاً، وصرف الأنظار عن مواجهة السياسات والممارسات الاحتلالية، من شأنه أن يعمّق أزمة عدم الثقة على المستوى الوطني، ويترك مجالاً لتوجيه اتهامات صعبة للسلطة والأجهزة الأمنية.
على أن إسراع فصائل العمل الوطني في نابلس، بمعالجة الأزمة وتهدئة الأوضاع يقدم دليلاً إضافياً على تقدم الوعي لدى النخب السياسية والشعبية، إزاء ضرورة توجيه البوصلة مرة أخرى نحو الاحتلال الذي يستهدف الكلّ الوطني، وباعتباره التناقض الرئيسي الذي يتصدّى له الشعب الفلسطيني.
تمّ وأد الفتنة في وقتٍ قياسي، لكن الاحتلال سيواصل التحريض والعمل من أجل الإيقاع بين الفلسطينيين، باعتباره هدفاً ثابتاً، لتمزيق وحدة الشعب، والنيل من هويته الوطنية وصموده ومقاومته.
كان من الضروري إذاك، أن تلتزم كافة الأطراف المعنية بما تم الاتفاق عليه، بما في ذلك إجراء تحقيق شفّاف ومحاسبة المسؤولين عن تلك الأحداث، لضمان عدم تكرارها من ناحية، واستعادة بعض الثقة بين مكوّنات الفعل الفلسطيني.
نحتاج لبناء الثقة، بين أطراف الفعل الفلسطيني، في الوقت الذي تشهد فيه الجزائر، حراكاً فصائلياً، ثنائياً في البداية، ثم جماعياً في أوائل تشرين الأول القادم، في محاولة جزائرية جديدة، للبحث في إمكانية الاتفاق على «خارطة طريق» لإنهاء الانقسام الفلسطيني.
ويحتاج الفلسطينيون إلى إعادة بناء الثقة في ضوء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يحضرها نحو مئة وخمسين رئيساً وملكاً، ورئيس حكومة، للتداول في الأزمات التي تعصف بالأمن والسلم الدوليين.
على طاولة الحوار الدولي في الأمم المتحدة، تتراجع مكانة القضية الفلسطينية حيث تتصدّر المشهد والنقاش أولاً، الحرب في أوكرانيا، ثم الملف النووي الإيراني، فيما يتم تناول القضية الفلسطينية، وكأنها قضية مؤجّلة مستعصية على الحلّ في هذا الزمان.
ليس مناسباً البتّة، أن يلقي الرئيس محمود عباس كلمة فلسطين من على منبر الجمعية العامة، بينما يكون المشهد الفلسطيني على الأرض، محزنا، ومشوّشا، إلى الحدّ الذي يُلقي بظلال قاتمة على التزام الشعب الفلسطيني وقواه السياسية، بأهدافه ومصالحه الوطنية.
الأوضاع في الضفة الغربية والقدس، وحتى الداخل الفلسطيني وقطاع غزة، تشهد توتّرات وتصعيدا نوعيا واسعا، من ناحية يؤشّر على احتمال الانفجار في وجه الاحتلال، ومن الناحية الأخرى يؤشّر على أن الاحتلال قد يرتكب حماقة من خلال توسيع وتكثيف عدوانه على نابلس وجنين.
السياسة الإسرائيلية، بكل سماتها العنصرية والإجرامية والإرهابية ينبغي أن تكون المشهد الوحيد أمام العالم، حتى لو أن هذا المشهد لا يحرّك سياسات الرؤساء والملوك نحو إنصاف الشعب الفلسطيني، ولكنه سيترك آثاراً قوية على الرأي العام العالمي، خصوصاً في الدول التي تبدع في ممارسة سياسة الكيل بمكيالين.
الدم الفلسطيني لا يزال هو العنوان المطروح على موائد وأجندات المتنافسين على المقاعد، والمسؤوليات خلال الانتخابات الإسرائيلية المقبلة التي لم يبقَ على إجرائها سوى أربعين يوماً.
إسرائيل التي تطلب من السلطة الوطنية القيام بدور فاعل في ضبط الأوضاع وملاحقة المقاومين في نابلس وجنين وفي الضفة عموماً، وتتحدث عن ضعف السلطة، واحتمال اندلاع فوضى عارمة، إسرائيل هذه، تطالب بالمستحيل.
لا يمكن لمعادلة الهدوء والتسهيلات وتصاريح العمل مقابل الأمن والاستقرار للاحتلال، لا يمكن لهذه المعادلة أن تتحقّق ليس لأن الشعب الفلسطيني يرفض السلام والأمن والاستقرار ولكن لأن إسرائيل تصادر كل الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذا الأمن والسلام، وفي الأساس مصادرة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
أي منطق هذا الذي يصدر عن المراجع السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية، يتحدثون عن ضعف السلطة، ويقوم وزير الجيش الإسرائيلي بيني غانتس، بالسطو على عشرة ملايين شيكل من أموال المقاصة بدعوى أنها مخصصة للأسرى؟
أي منطق هذا، الذي يؤدي بإسرائيل إلى اتخاذ قرار بإغلاق الضفة الغربية والقدس، وإغلاق المعابر مع قطاع غزة، خلال فترة الأعياد اليهودية، وحتى يقوم المتطرفون بأداء طقوسهم التلمودية في القدس والمسجد الأقصى، بينما يكون على الفلسطيني أن يجلس في بيته أمام شاشة التلفاز ليشاهد بشاعة السلوك الإسرائيلي؟
إسرائيل عملياً تصعّد من عدوانها في كل مكان في الضفة والقدس، حيث تقوم بحملات اعتقال بالجملة، تقول إنها ذات طبيعة استباقية لمنع وقوع عمليات، ولا تتوقف عن اقتحام المدن والقرى الفلسطينية وتستخدم الطائرات المسيّرة لملاحقة المواطنين.
ما تقوم به إسرائيل، دون توقف، لا يمكن إلّا أن يؤدي إلى انفجار واسع قريب على كلّ ساحة الوطن الفلسطيني، والمتوقع خلال فترة الأعياد، أن يهبّ الفلسطينيون في القدس للدفاع عن المسجد الأقصى والتصدي لممارسات المستوطنين المتطرفين.
على إسرائيل أن تتوقع استناداً لما تمارسه من سياسات، أن يقع ما يحذّر منه مسؤولوها، ويخافون منه، ما سيقلب الطاولة على كل الواهمين بإمكانية استغلال الدم الفلسطيني لمصالحهم الخاصة والاحتلالية.