بات موضوع توفر الغاز موضوعاً حيوياً وبل مصيرياً للعديد من الدول، وبالأخص لدول تعتمد عجلة الاقتصاد والحياة فيها على توفر الغاز، ومنها الدول الاوروبية، التي بعضها وعلى سبيل المثال ألمانيا التي تملك اقوى اقتصاد اوروبي، فهي تقف على اعصاب مشدودة مع قدوم الشتاء واحتمال اغلاق انابيب الغاز الروسي كرد فعل على مواقفها من الحرب الروسية الاوكرانية أو لاسباب أخرى، وبدأت هذه الدول تحاول توفير كميات من الغاز المتوفر حاليا من أجل الاوقات الصعبة، حين يحل فيها البرد وركود الاقتصاد والتضخم والبطالة وغير ذلك من التداعيات بأنواعها.
وليس بعيدا عن أوروبا وقريبا من بلادنا، وفي شرق البحر الابيض المتوسط، تختلط ملفات السياسة والاقتصاد والصراعات والتوترات بأنواعها بملف الغاز، سواء حول صلاحية أو شرعية التنقيب عن الغاز، أو آلية ايصاله اي تصديره وبطرق مختلفة للجهات الاكثر حاجة، اي الى اوروبا، أو الى الجهات الاكثر نموا اقتصاديا واستهلاكا للغاز مثل الصين والهند.
وفي خضم ذلك تنشأ التوترات ويتم اعادة ترتيب الاولويات والمصالح، مثل ما يتم بين تركيا واليونان، أو بين لبنان واسرائيل، أو تركيا وليبيا، أو بين مصر وقبرص واليونان واسرائيل، أو بين اسرائيل ومصر، أو غير ذلك من التحالفات والترتيبات التي تبحث عنها الدول من أجل مصالحها فيما يتعلق بملف الغاز، كما حدث خلال الايام القليلة الماضية من اعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين تركيا واسرائيل.
وفي اطار هذه الاولويات والتشابك في المصالح، نشعر نحن في فلسطين بالضياع أو على الاقل بعدم الوضوح فيما يتعلق بملف الغاز الخاص بنا، وبالتحديد الغاز المكتشف أو المتوقع اكتشافة بالقرب من سواحل قطاع غزة، أو حسب المعايير أو القوانين الدولية في المياه الاقليمية الفلسطينية، والذي من المفترض وان تم استغلاله بالشكل والتوقيت والآلية الصحيحة، أن يحقق عائداً بالعملة الصعبة وبشكل مهم في هذه الاوقات العصيبة للاقتصاد الفلسطيني ولحياة الناس، اسوة بدول قريبة منا اضحت العائدات بالعملة الصعبة لها من تصدير الغاز أو من خلال اعادة تصديره بعد إسالته، من الاسباب الرئيسية لقوة عملاتها واقتصادها والاستقرار السياسي فيها.
 ولكن لا نرى ومن خلال البيانات الاقتصادية أو المالية الفلسطينية السنوية، أي اشارة الى مساهمة للغاز في الناتج القومي الاجمالي، وما زلنا نرى الفاتورة الضخمة للغاز المستورد كليا من الجانب الاسرائيلي، والتي تتحملها في المحصلة جيب المواطن .
ومن الواضح أنني كمواطن واسوة بالملايين الآخرين من المواطنين لا نعرف ما يتم أو ما جرى وما هي الخطط والعقبات التي تحول دون مساهمة هذا القطاع وبقوة في اقتصادنا، وبات من الواضح اننا نضيع في خضم ادارة هذا الملف بين غياب الشفافية والوضوح وبين ضآلة أو تغييب المعلومات سواء بشكل متعمد أو بشكل غير مقصود.
وقبل عدة أيام، تم عرض نتائج دراسة قام بها ائتلاف «أمان» حول موضوع ادارة ملف الغاز، وكان من الواضح من خلال النتائج أو التوصيات التي خرجت بها الدراسة، أن هذا الملف ما زال غامضاً ليس فقط عند الناس العاديين ولكن عند المختصين والمهتمين والباحثين، وانه لا توجد خطة وطنية متكاملة لادارة هذا الملف بشكل يحقق المصالح الوطنية وبعائد ايجابي للناس، ولا يوجد اطار قانوني واضح ينظم ادارة ملف الغاز، وهناك عدم وضوح في الصلاحية في التعامل مع هذا الملف سواء من خلال الحكومة أو صندوق الاستثمار أو حتى الرئاسة، والاهم هو ضآلة أو عدم توفر المعلومات الضرورية لمعرفة ما يجري في هذا الملف وبالأخص حول انضمام فلسطين الى منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط حول الغاز والتبعات السياسية والاقتصادية والسلبيات والإيجابيات لذلك، والاهم وحسب نتائج الدراسة غياب الشفافية فيما يتعلق بإدارة هذا الملف الحيوي.
والشفافية سواء فيما يتعلق بملف الغاز أو غير ذلك من الملفات الوطنية أو التي لها تأثير عام، هو موضوع حيوي ليس فقط للتنمية والتقدم ولكن لمجريات الحياة العامة، لأن غياب الشفافية مترابط بشكل او بآخر بموضوع الفساد، والفساد متنوع، وهو من اهم معيقات التقدم والتنمية، وحين الحديث عن مكافحة الفساد، من المفترض ليس فقط الاشارة الى القطاع العام، ولكن هناك قطاعات اخرى، فهناك قطاع المؤسسات العامة التي لا تتبع الحكومة وهي كثيرة في بلادنا، وهناك الجامعات والجمعيات او المؤسسات التي تديرها مجالس امناء، وهناك الشركات المساهمة العامة، اي التي يضع الناس فيها اموالهم، وهناك المؤسسات الكثيرة للمجتمع المدني.
وبدون الخوض في التفاصيل الكثيرة حول إدارة ملف الغاز، والتي لا نعي خباياها كثيراً، سواء التفاصيل الفنية أو المالية أو الجيوسياسية او غير ذلك من الامور، فإن من حق المواطن ان يعلم وبشكل دوري ومنتظم وببساطة وبوضوح وبنوع من الشفافية ما يدور حول ملف الغاز، الذي يعتبر هذه الايام سلعة استراتيجية مصيرية بكل المعايير للعديد من الدول وما بالك نحن، الاحوج الى ذلك، بعيداً عن انتظار أموال الدول المانحة أو معرفة النسب المقتطعة من أموال المقاصة أو أرقام العجز التجاري الشهرية، والاهم من حق المواطن ان يحصل على المعلومات ويعرف العقبات أو المعيقات التي ما زالت تمنع استغلال حقول الغاز مثلما تتسابق الدول من حولنا للقيام به.