بنسبة مشاركة تجاوزت الـ 27%، وبموافقة أكثر من 94% من المصوّتين على الدستور، تكون تونس قد عبرت إلى ضفة أخرى جديدة، حسب تعبير الرئيس التونسي نفسه.
بموجب الدستور الذي تم إقراره بعد قبول الهيئة المستقلة للانتخابات للنتائج، تنتقل تونس رسمياً إلى النظام الرئاسي «بدلاً» من النظام البرلماني مباشرةً بعد المهلة المحددة للطعون بثلاثة أيام من تاريخ إعلان النتائج.
لم يعد للبرلمان الأهمية التي كانت له قبل الدستور الجديد، وتقلّصت مهامه وصلاحياته، وانتقل معظمها إلى سلطات الرئيس بما في ذلك صلاحية حل البرلمان، إضافةً إلى صلاحيات أخرى واسعة على صعيد تشكيل الحكومة والمؤسسات القضائية العليا وغيرها.
ما هو مدلول ومغزى هذا التحوّل؟
ولماذا أصرّ الرئيس التونسي على هذا التحوّل بالذات؟
وهل هذا التحوّل هو «انقلاب» على الديمقراطية كما تروّج «النهضة» وأعوانها، أم أن هذا التحوّل هو من حيث المبدأ، ومن حيث الشكل والمحتوى، أيضاً، هو إجراء قانوني وديمقراطي ولا يمثّل خروجاً عن المسار الديمقراطي؟
بل إن السؤال هذا هو جوهري ومصيري ومشروع بقدر ما يُطرح من زاوية الظروف الملموسة التي أدّت بالرئيس إلى اختيار هذا التوجّه، وليس من زاوية المناكفات السياسية التي أخذت أبعاداً حادّة وخطرة منذ الإجراءات التي اتخذها الرئيس، ومنذ بدء مسار التصحيح الشامل الذي أقدم عليه.
وكيف يمكن أن يتم فهم توجهات الرئيس التونسي منذ «الإجراءات» وحتى إقرار الدستور الجديد بأنها توجهات للاستئثار بالحكم، والتحوّل إلى سلطة (مستبدّة) بمعزلٍ عن حالة العجز والفشل، وتفاقم الأزمات بصورةٍ كادت تودي بالبلاد والعباد، ووضعت المجتمع التونسي بين معادلة «لا مخرجَ منها» بالمراوحة في الفترة الفاصلة بين أزمةٍ وأخرى، وبين الفشل والاستمرار في تكراره، وفي إعادة إنتاج الفشل؟
ليس كل هذا فقط، وإنما كيف يمكن حشر الخلاف في هذه الزاوية بالذات بمعزلٍ عن عقدٍ كامل من تفاقم الأوضاع المعيشية، وبمعزلٍ عن سدّ الطريق أمام كل محاولة لإخراج البلاد من أزماتها «بالاستناد» إلى البرلمان الذي لم يمثل حالة تعطيل وشلل فقط، وإنما تحوّل في الواقع إلى أداةٍ للاستحواذ السياسي والاستئثار الاقتصادي، وإلى غطاءٍ للفساد والإفساد والتعمية على قضايا تتعلق بأمن الدولة، وبجرائم إرهاب، وتلفيق الوقائع والحقائق الدامغة؟
ومهما كانت هناك من اجتهادات قانونية على طرفَي معادلة الصراع الداخلي في تونس، فهل يجوز لأحدٍ، كائناً من كان، أن يصور هذا الصراع وكأنه صراع بين «الديمقراطية» و»الاستبداد»، في الوقت الذي شلّ ومنع وعطّل وأعاق كل طريقة، وبكل الوسائل والأشكال للخروج من أزمات البلاد تحت ذريعة الديمقراطية؟
لم يكن الحلّ الوحيد الممكن أمام الرئيس هو الإزاحة للخطر المحدق عبر «الإجراءات» ثم محاولة وضع أساس قانوني دستوري للتسلّح به في مواجهة الخطر؟
ثم هل تحوّل النظام السياسي من البرلماني إلى الرئاسي هو أمر خارج المألوف الديمقراطي في هذا العالم، أم هو «بدعة» لجأ إليها رئيس الجمهورية من خارج المألوف الديمقراطي المعروف وطنياً وعالمياً؟
إن تصوير إجراءات الرئيس قيس سعيّد آنذاك وكأنها انقلاب، والاستمرار في نفس هذا النهج حتى بعد أن حقق الاستفتاء النجاح الكبير الذي حققه، هو في الحقيقة التعبير الأكثر عمقاً وجوهرية عن عقلية احتجاز التطور الديمقراطي، وتحويل الدولة الوطنية، والمجتمع، إلى رهينة سياسية مقيّدة بالسلاسل الحزبية التي تعكس المصالح الخاصة للمنظومات الحزبية المشاركة في لعبة احتباس الديمقراطية في تونس، وفي مغامرة الشلل والارتهان.
أيهما أفضل للمجتمع التونسي، تركيز السلطات في يد رئيس منتخب مهما كان هذا التركيز مشدّداً بل وحتى «مكروهاً»، وغير محبّذ إلّا في ظروف خاصة واستثنائية، أم إبقاء البلاد في حالة الشلل والارتهان التام؟
إذا كان الجواب عن هذا السؤال هو أن بقاء البلاد معطلة وعاجزة ومشلولة ومرتهنة، وأن الحلول التي لا تستجيب لمصالح المنظومات الحزبية التي تمكنها من الاستمرار في الاستحواذ والاستثناء والهيمنة هو مقياس «الديمقراطية»، وهو المعيار الأوحد «للحرية»، فإن ديمقراطية كهذه، وحرية كهذه، هي آخر ما تهمّ الشعب التونسي، بصرف النظر عن أن أول ما يهم المنظومات الحزبية، وأول الأولويات لهذه المنظومات، هو هذا «النمط» من الديمقراطية والحرية.
وفي مثل هذه الحالة، وفي طغيان مفاهيم كهذه، وأولويات واهتمامات، فإن من واجب، قبل أن يكون من حق الرئيس التونسي، أن يلجأ إلى كل إجراء، طالما أن هذا الإجراء قانوني، أو أنه لا يوجد ما ينفي قانونيته لا نصاً ولا روحاً.. وأن يستخدم كل الأدوات القانونية لمحاصرة هذا النهج العدمي من الزاوية الوطنية، والخطر من زاوية مصلحة المجتمع، والمدمّر من زاوية المصير وزاوية المستقبل.
أما إذا كان الجواب عن هذا السؤال بأن مصلحة البلاد باتت تحتّم الخروج الآمن من المأزق (والخروج الآمن هو الخروج الدستوري)، وأن تركيز الصلاحيات في يد الرئيس أقلّ خطراً على البلاد من خطر شلل وتعطيل كل الصلاحيات «وتأبيد» العجز والفشل، وتحويله إلى السياسة الوحيدة المطروحة على جدول أعمال المجتمع التونسي، فإن إجراءات الرئيس حينذاك، والاستفتاء على الدستور الجديد، ونجاح هذا الاستفتاء، أفضل بألف مرّة من زاوية المصالح الوطنية العليا والعميقة للشعب التونسي الشقيق.
إذا كانت السياسة في أحد أهمّ وأعمق معانيها هي فن الممكن، وفن تحديد الضرورات، والأهمّ فن اعتماد الأولويات من بين كل الممكنات ومجمل الضرورات، فإن خيارات الرئيس واختياراته، وصموده ومثابرته، وصلابته وإيمانه بمنطق الحق والواجب، هو بمثابة نهج وطني على الرغم من أن الأدوات القانونية التي اختارها ولجأ إليها ليست هي الأدوات والاختيارات المثالية، وليست هي المرغوبة، وليست هي الأفضل من بين كامل الأدوات الديمقراطية.
أما محاولة التضليل التي تتمثل في تصوير نسبة المشاركة في الاستفتاء بأنها تعكس أرجحية مواقف المعارضة لإجراءات الرئيس وكذلك طرح الدستور على الاستفتاء العام، فهذا كلّه ليس إلّا خدعةً مكشوفة.
هذه ليست سوى إمعان في إيهام الشعب التونسي باختلاق واقع افتراضي لا يمكن الاعتداد بصدقيته.
إذ إن تصوير المشاركة بالاقتراع على الدستور بأنها حالة من معادلة الثلث مقابل الثلثين هي طرفة سياسية باهتة.
الدستور السابق يجيز اللجوء إلى الاستفتاء، وقد تم ذلك، ولم يشترط نسبة معينة للمشاركة، والتصويت بنعم للدستور بنسبة 51% من عدد المشاركين يكفي لاعتماده وإقراره، وكل ما عدا ذلك، أو خارج ذلك من تصوّرات هي، إمّا رغبات أو تمنيات أو «استحضارات ذهنية» ليس إلّا.
هذا بالإضافة إلى أن مثل هذه النسبة من المشاركة ليست خاصية تونسية ولا عربية، بل إن العكس هو الصحيح، إذ إن مثل هذه النسب هي نسب معهودة في كل البلدان الديمقراطية أو غالبيتها الساحقة.
صحيح أن المسار الديمقراطي في تونس قد شابه الكثير من المشكلات، وربما ما زال يشوبه، اليوم، لكن هذا المسار على الرغم من ذلك ما زال يتقدم، حتى وإن كان هذا التقدم ظهر وكأنه متعثر في مراحل فاصلة سابقة.