يمكن أن يكون عنوان هذا المقال صادماً.
لكن المؤشّرات على هذا الانفصال كبيرة، حتى وإن بدت الأمور على صورة مغايرة بين فترةٍ وأخرى.
الصورة الأخرى هي في الواقع مزدوجة الأبعاد.
فمن ناحية، يحاول القطاع التذكير بنفسه، ويحاول أن «يؤكد» على وجوده في قلب المعركة الوطنية من خلال مشروع «المقاومة»، ومن ناحية أخرى، تحاول حركة حماس تحويل مشروع «المقاومة» إلى حالة مفصولة عن هذه المعركة الوطنية.
كيف؟
من استمع جيداً إلى خطاب إسماعيل هنية، أو إلى خطاباته الأخيرة في لبنان يستطيع حتى بقليل من الموضوعية أن يستنتج بكل سهولة ويُسر أن دور قطاع غزة في المعركة الوطنية هو «السلاح»، وأن هذا السلاح قد بات من القوة والبأس ما يجعله عنصراً «حاسماً» في التوازن القائم مع إسرائيل، وأن إسرائيل باتت غير قادرة على فعل شيءٍ ضد القطاع بسبب «خوفها» من قرار «المقاومة» بدخول معركة التحرير الأخيرة!، وأن هذا الردع بالذات ليس سوى المقدمة للتحرير الذي صار قاب قوسين أو أدنى.
وبالتالي، عندما نُمعن النظر في هذا الطرح يتبين لنا أن المعركة في الضفة باتت «محمية» بسلاح المقاومة، وبات الكفاح الوطني فيها مشروطاً بوجود هذا السلاح، وأن نجاح هذا الكفاح بات يتطلب «الحفاظ» على قطاع غزة، كما هي عليه من حالة خارج مسألة إنهاء الانقسام، بل وكأن إنهاء الانقسام سيعني «بالضرورة» حرمان الكفاح الوطني في الضفة، وطبعاً في الداخل الفلسطيني، وفي الخارج، أيضاً، من أحقية وجدوى وجود وأهمية هذا الكفاح.
وهو ما يعني أن إنهاء الانقسام لم يعد، لا مسألة مهمة، ولا ملحّة، ولا راهنة، بل وقد تكون ضارة للكفاح الوطني كله.
لمن لم تسعفه فطنته قراءة خطابات هنية للانتهاء إلى هذا الاستنتاج، وما زال يحتاج إلى وقتٍ إضافي للتأمّل والتفكير، فمن حقه ذلك، ومن الواجب عموماً احترام هذا الحق إلى أن تظهر الأمور بصورة أوضح مما هي عليه الآن.
ليس صدفةً أبداً أن إنهاء الانقسام قد تحوّل في الواقع إلى أحد أهم «المنسيات» الفلسطينية في الشهور الأخيرة، وأصبح الحديث عن إنهاء هذا الانقسام هو أقرب إلى «اللازمة» السياسية التي لا بدّ من تكرارها من قبل الجوقة الغنائية للإبقاء على انسجام اللحن وترابط وانسجام سياقه الفني.
وأصبح شعار إنهاء الانقسام كشيءٍ لا بدّ منه، ولا بدّ في كل مناسبة وطنية، ولا بدّ من التذكير به من باب الرغبة في عدم التسليم بالفشل التام، أو الاستسلام لما وصل إليه.
وليس صدفةً أن الحديث عن عصر «الانتصارات» يأتي في «عزّ» عصر الترتيبات والتفاهمات والتوافقات مع إسرائيل للإبقاء على أعلى حالة من الهدوء، وعلى أعلى درجةٍ من «الضبط الميداني»، وإلى أعلى تعاون، وأعلى أرقام العمل في إسرائيل، وإلى أعلى درجات «التعهد» بمنع إطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل.
وليس صدفةً أبداً أن الأمور يتم التخطيط لها لمراحل مستقبلية تراها حركة حماس قادمة لا محالة.
من هذه الأمور أن «حماس» تدرك استحالة «فك وإعادة» تركيب النظام السياسي الفلسطيني دون السيطرة على الشتات الفلسطيني طالما أن السيطرة على الضفة متعذّرة لأسباب كثيرة، وطالما أن الجناح الإيراني في الحركة موجود تحت سيف التهديد الإسرائيلي في قطاع غزة.
هذا برأيي هو أحد الأسباب الرئيسة لخروج قيادات «حماس» من القطاع، والإبقاء على الصف الثاني فقط بقيادة السنوار، ولأن الزخم «الحمساوي» في الخارج يستحيل دون «المصالحة» مع سورية، ودون الاندراج الكامل بالسياسة الإيرانية، حيث تعرف حدود الموقف التركي والقطري هنا.
وبالعودة قليلاً إلى الوضع في الضفة فإن حركة حماس تراهن على تفكك حركة فتح، وعلى نشوب صراعات، وربّما دامية ما بين مراكز النفوذ فيها، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الرئيس، وهي بالتالي تُحكم سيطرتها على القطاع ولكن دون تعريض قياداتها «للخطر»، خصوصاً أن مسألة «الاغتيالات» هي مسألة موجودة في أدراج المؤسسة الأمنية الإسرائيلية للجوء إليها عند الضرورة.
باختصار، فإن «حماس» ليست بوارد، وليست على أي استعداد حتى لمناقشة إنهاء الانقسام، وأصبحت هذه المسألة بالنسبة لـ»حماس» مسألة من الماضي، ولم يتبق منها سوى أمنيات الحالمين، وبعض نوستالجيا (الحنين) لبعض الكتّاب والمثقّفين.
باختصار، فإن «حماس» غادرت ومنذ فترة طويلة ساحة البحث عن حلول لإنهاء الانقسام من داخل النظام السياسي، أو حتى بواسطة إعادة إصلاح هذا النظام، والمسألة قد تجاوزت هذا الأمر بخطوات، وبات التفكير والتخطيط الحقيقي، والقائم على قدمٍ وساق هو «فك وإعادة تركيب» هذا النظام، بحيث تصبح المنظمات والفصائل المنضوية، وغير المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية، منظمات ملحقة بـ»حماس» بحماية ورعاية المحور الإيراني، وفي مراهنة على تفكك «فتح» وفقد السيطرة على الحالة الوطنية، بل وربما المراهنة على «التحاق» بعض أجنحة «فتح»، ومراكز القوة والنفوذ فيها بهذا المحور.
وفي المدى المتوسط ترى «حماس» أن مسألة «الموازي» و»البديل» هي مسألة مؤقتة إلى حين فك وإعادة تركيب النظام السياسي لكي يتم «ترسيم» التفاهمات والترتيبات مع إسرائيل في مراحل لاحقة من موقع القوة التي تمتلك القرار.
في أجواء كهذه، لا مكان لإنهاء الانقسام، والمكان الوحيد الذي أصبح مُتاحاً من الناحية الواقعية هو الانفصال ـ غير المعلن ـ إلى أن يتم «إنجاز» ما تراه وتخطّط له «حماس».
كان يستحيل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه لو أن القيادة الرسمية قد شرعت بخطوات جادّة للمراجعة وإعادة إصلاح المنظمة، وكان مستحيلاً بصورة مضاعفة لو أن القيادة الرسمية نفذت القرارات التي اتخذتها المؤسسات الرسمية من المجلس الوطني إلى عدة دورات للمجلس المركزي، ما يعني أن كل هذه المواقف المترددة من عملية الإصلاح، ومن تفعيل النظام السياسي، ومن استنهاض الحالة الوطنية هي كلها وبمجملها قد أسهمت من الجانب الآخر في طيّ صفحة إنهاء الانقسام، والوصول إلى هذا «الانفصال» غير المعلن بعد.
والاستنتاج هنا هو أن الحركة الوطنية الفلسطينية بدأت منذ سنوات تعيش مرحلة العجز والشلل، وهي باتت، اليوم، جاهزة للدخول في مرحلة التفكك، والتي لا يفصلها عن الانهيار أي مراحل انتقالية أخرى.
ومؤشرات الانفصال هي مؤشرات على الحالة العامة المتهاوية، وذلك لأن انتقال «حماس» لمرحلة «الفك والتركيب» هو انعكاس لحالة فشل تام، وهي مغامرة تعكس أزمة أكثر مما هو أي شيءٍ آخر.
وأما مراوحة مواقف القيادات الرسمية في مراحل من الانتظار والمراهنة، انتظاراً وراء آخر، ومراهنة وراء أخرى هو انعكاس لحالة من التردي الذي يسبق الانهيار.
كان الله في عون شعبنا قبل أن يهتدي إلى سواء السبيل.