لم يتمكن الرئيس بايدن من تجنب الوقوع في "فخ" اليمين الصهيوني المتطرف والأكثر تطرفاً في حالتين فاقعتين:
الحالة الأولى، عندما رفع منظمة "كاهانا حي" من لائحة المنظمات العنصرية، والأصح القول من لائحة الإرهاب والفاشية كذلك.
هذه المنظمة في الواقع، وكما يثبت ملفها في وزارة الخارجية الأميركية، وفي كل وزارات الخارجية والأمن في الغالبية الساحقة من دول العالم قامت بأعمال لا يمكن تبريرها تحت أي ظرف أو دافع أو على أي خلفية، طالما أن الخلفية الأيديولوجية المعلنة والسافرة في الكراهية والدعوة إلى العنف والإرهاب الهادف بكل وضوح إلى القتل والترحيل وهدم الأقصى وكل المقدسات، وطالما أن هذه المنظمة لا تتردد أبداً في طرد العرب الفلسطينيين تحت شعار جامع هو "الموت للعرب".
لا يوجد في عالم اليوم من يستطيع ـ مهما كان يمينياً، أو محافظاً، أو رجعياً أو شعبوياً ـ أن يقبل أو يتقبّل فكرة رفع هذا التنظيم من لائحة الإرهاب والعنصرية بالسهولة والاستهتار الذي أقدمت عليه إدارة الرئيس الأميركي بايدن!
والسبب في تردد كل هذه الأوساط الشعبوية واليمينية والمحافظة ليس عدم الرغبة في هذا الرفع، والدافع لا يعود لا لأسباب إنسانية أو أخلاقية، وإنما لأن سجل هذا التنظيم وأفكاره وسياساته ومواقفه تلحق كل من يسانده من خارج الدائرة الحزبية والسياسية في إسرائيل أشد الأذى والضرر وربما العار، أيضاً.
أما كيف أن وزارة الخارجية الأميركية قد تناست بالكامل حرق الفلسطينيين (عائلة الدوابشة والطفل أبو خضير) والإقدام على جرائم قتل عشرات المصلّين وهم يسجدون، والدعوات اليومية للقتل وارتكاب المذابح والجرائم علناً، وكيف اتخذ الرئيس الأميركي هذا القرار فهذا يصعب فهمه، وقد يستحيل معرفة ما يقف خلف هذا القرار، وهو ما سأحاول التخمين بشأنه بعد تناول الحالة الثانية.
أما الحالة الثانية، فهي "الإبقاء" على تصنيف "الحرس الثوري" الإيراني باعتباره منظمة إرهابية.
ليس من بين أهداف تناول هذه المسألة كحالة ثانية من حالتي وقوع الرئيس بايدن في "فخ" اليمين الإسرائيلي المتطرف والأشد تطرفاً مناقشة فيما إذا كان "الحرس الثوري" الإيراني هو منظمة إرهابية أو لا، لأن مثل هذه المناقشة تحتاج إلى سياقات ومساحات أخرى.
سواء انطبق التصنيف الأميركي لـ"الحرس الثوري" الإيراني بسمة الإرهاب أم لا، فإن هذا الأمر برمّته ليس له علاقة من قريب أو بعيد بهذا التصنيف، وذلك لأن "الإبقاء" على هذا التصنيف ـ كما هو الأمر في الحالة الأولى ـ ليس له علاقة سببية بموقف فكري، أو إنساني، أو "ديمقراطي" أو أي مسألة من هذا القبيل.
الذي يقف خلف موقف الرئيس الأميركي في الحالتين هو الاعتبار السياسي المباشر. كيف؟ ولماذا؟
ما أراه هو أن الإدارة الأميركية لم تتمكن عشية اندلاع الحرب في أوكرانيا من حسم موقفها لصالح التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني لأنها كانت على علمٍ وعلى قناعةٍ، أيضاً، بأن الحشودات الروسية على الحدود الطويلة مع أوكرانيا ستؤدي إلى الحرب، ولأنها كانت ـ أي الولايات المتحدة ـ على علمٍ مسبقٍ بأن أوكرانيا تعد العدة للهجوم على إقليم الدونباس، وعلى "القرم" فقد "آثرت" الانتظار حتى المرحلة الأولى من "نتائج" هذه الحرب، لكي تمحّص في الأمر، ولكي تحسب حساباتها وفق هذه النتائج، ووفق الآفاق المستقبلية التي ستترتب على هذه النتائج.
راهنت الولايات المتحدة على قدرة أوكرانيا على امتصاص الضربة الروسية، وعلى فعالية الموجة الهائجة للعقوبات، وعلى "تشغيل" أكبر ماكينة إعلامية في التاريخ كله للتضليل والكذب والفبركة الإعلامية المفضوحة والمبتذلة إلى أقصى حدود التجرد من القيم الإنسانية والعقلانية، وكذلك الأخلاقية، راهنت الولايات المتحدة على ذلك كله بهدف "حشد" كل الإمكانيات لإحداث صدمة كبيرة لروسيا، وكسر إرادتها، وإجبارها على الخضوع لمخططات الولايات المتحدة في هذا الإطار.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة قد "نجحت" في إعادة احتلال وإخضاع أوروبا بذريعة مواجهة "الخطر" الروسي، وبالرغم من أن ماكينتها الإعلامية قد "تمكنت" ـ حتى الآن ـ من "شيطنة" هذا الخطر، إلّا أن النتائج التي "حصدتها" حتى الآن هي نتائج متواضعة للغاية، وذلك لأن الاقتصاد الروسي لم يصمد فقط، وإنما بدأ فعلياً بالاستقرار النسبي المدهش، ولأن الشرق الأوكراني انتهى أمره، ولم تتمكن المساعدات الغربية، والتي هي بالفعل مساعدات هائلة وغير مسبوقة في التاريخ كله، لم تتمكن من منع روسيا من إحكام سيطرتها على الشرق الأوكراني، ومن إحكام سيطرتها النارية على كامل الجغرافيا الأوكرانية، وهي كما يبدو تحضّر الآن "لشرعنة" الانفصال التام لشرق أوكرانيا بوساطة استفتاء سيكرس هذا الانفصال.
راهنت الولايات المتحدة على "قبول" إيران "بالانفكاك" عن روسيا والصين مقابل الاتفاق النووي ولكنها فشلت، وراهنت على الانخراط الإسرائيلي المباشر والصريح في حرب "الناتو" على روسيا، ولكنها جوبهت بالطلبات الإسرائيلية حول ضرورة "عدم" التوقيع على الاتفاق النووي، وكذلك على ضرورة رفع منظمة "كاهانا حي" من قائمة الإرهاب والعنصرية.
هنا يمكن التخمين بأن إسرائيل هددت "بتخريب" منطقة الإقليم كله من خلال مهاجمة إيران، أو بعض المناطق فيها والتي تقع فيها أكبر المنشآت النووية الإيرانية، لكنها قبلت التزام "الهدوء"، وعدم القيام بذلك مؤقتاً إلى أن تنجلي الصورة في أوكرانيا.
وهذا الذي تمّ بالفعل، بأن خضع الرئيس بايدن لهذا الابتزاز، أو هو أراد إعادة السيطرة على إقليم الشرق الأوسط من خلال إرضاء معظم دول الخليج، وتأكيد وإعادة التأكيد على التحالف العربي الإسرائيلي في وجه "الخطر" الإيراني في ظل التحديات التي تمثلها الحرب في أوكرانيا على "تماسك" الحالة الدولية الموالية للولايات المتحدة، والخوف الشديد من انفراط هذه الحالة في منطقةٍ حسّاسة كالشرق الأوسط.
هذا لا يعني أن الإدارة الأميركية هي نفسها بعيدة عن الفهم والمواقف اليمينية الإسرائيلية، لكن هذه الإدارة بهاتين الخطوتين تكون قد ارتكبت ما هو أكبر من مجرد الأخطاء، وما هو أبعد من كل حسابات مؤقتة.