مع جزيل الاحترام والتقدير لدولة الجزائر الشقيقة رئيسا وحكومة وشعبا، ومع كل الامتنان للدعم الذي قدمه هذا البلد على امتداد تاريخه، وما يزال يقدمه لشعبنا في الميادين كافة، بما في ذلك الدعم السياسي واللوجستي والمادي، للثورة ومنظمة التحرير ثم للسلطة، وكذلك للشعب من خلال عشرات آلاف فرص العمل والدراسة التي أتاحتها ووفرتها هذه الدولة لأبناء وبنات شعبنا، فضلا عن تصديها الحازم للاختراقات الإسرائيلية في افريقيا. إلا أن المؤشرات المتوفرة، والتطورات السياسية الداخلية المتلاحقة، لا تشجعنا على إبداء كثير من التفاؤل بأن جولة الحوار التي دعيت لها ستة من الفصائل الفلسطينية يمكن لها أن تخرج بنتائج مغايرة لنتائج جولات الحوار السابقة التي استضافتها عديد العواصم والمدن العربية والعالمية.

صحيح أن جلسات الحوار مختلفة هذه المرة عما سبقها، من حيث كونها جولات استكشاف بين الدولة لجزائرية وبين كل فصيل على حدة، وعلى الأرجح أنها سوف تتوج بجولات متعددة وجماعية، إلا أنها جلسات حوار في نهاية المطاف، وسوف تسجل باعتبارها جولة جديدة من هذا المسلسل الطويل، أو أنها تتوصل لاتفاقيات نظرية ولا تجد بعد ذلك طريقها للتنفيذ. وإذا حصل ذلك فالنتيجة هي خيبة جديدة يصاب بها شعبنا الفلسطيني المنكوب، ومزيد من اتساع الفجوة بين الفصائل السياسية وكل مكونات النظام السياسي الفلسطيني من جهة، وبين الجمهور العريض الذي تراجعت ثقته في أداء مؤسساته السياسية. وما فشل الحوارات المتتالية والإمعان في السير على طريق الإنقسام والانفصال إلا وجه واحد من وجوه الفشل والأزمات في الميادين السياسية والداخلية المختلفة.

وفي النظر إلى حوارات الجزائر يتنازعنا اتجاهان: الأول هو الحسابات العقلية الباردة التي تعتمد على الأدلة والمقدمات المادية، والمنطق والمعطيات والمسارات الجارية على أرض الواقع، وكلها سلبية تدفعنا إلى التشاؤم. من بين هذه المؤشرات السلبية تغيير رموز الحوار عن الجولات السابقة، وغياب أطراف سياسية مهمة في حسابات المعادلات السياسية الفلسطينية، وتغييب ممثلي المستقلين والمجتمع المدني والحراكات حيث سبق لبعضهم الحضور في بعض جولات الحوار، ومن المؤكد أن هذه الأطراف ليست هي المسؤولة لا عن الانقسام ولا عن تعثر المصالحة، بل يمكن لحضورها أن يشكل عامل ضغط وتأثير في اتجاه الاتفاق والتفاهم، كما يبرز من بين العوامل السلبية ما نتابعه يوميا من خطوات وإجراءات، وخيارات سياسية منفردة تنضج في أجواء الانقسام، فضلا عن الشروط التي توضع مسبقا لحضور هذا الطرف أو ذاك أو انضمامه للإطار التمثيلي الموحد ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية.

أما الاتجاه الآخر الذي يحركنا، فهو ما تمليه علينا عواطفنا ومشاعرنا ووجداننا، وقناعتنا بعدالة قضيتنا، وبأن الخير باق في هذا الشعب، وبالتالي لا يمكن للانقسام أن يدوم، هذا الاتجاه يعززه الشعور بالمسؤولية لدى كل من ناضل من اجل حرية هذا الشعب وأحس بآلامه وحمل آماله، نداءات الأسرى كلها تحض على هذا الاتجاه، وكذلك النداءات الصادرة عن مختلف تجمعات الفلسطينيين في الشتات وفي الداخل المحتل عام 1948 وعن المثقفين والروابط المهنية والنقابية، والمجتمع المدني وكل أصدقاء شعبنا وأنصاره على امتداد العالم. ولعل هذه العوامل هي التي تحرك الجزائر الشقيقة، فتدفعها إلى التدخل وبذل الجهود الممكنة لقطع الطريق على ما هو اسوأ.

هذا التفاؤل ليس وليد الفراغ والعدم، بل وليد القناعات والإيمان بأنه دائما توجد إمكانية لما هو أفضل، إذن واجبنا ومسؤوليتنا يمليان علينا التمسك ببصيص الأمل حتى لو كان خافتا، وأن نعمل كل ما هو متاح لتعزيز هذا الأمل وحمايته، ولعل حالة مشابهة في قتامتها وتشاؤمها هي التي دفعت شاعرنا العظيم محمود درويش إلى التعبير عن ذلك بقوله في قصيدة “حالة حصار”: نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل، نُرَبّي الأمل!

ليس من الحكمة انتظار المعجزات من اجتماعات الجزائر التي يبدو أن الفصائل تحضرها من قبيل مجاملة هذا البلد العزيز، كما أن تحقيق اختراق جدّي في ملف إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى ضغوط وحراكات مجتمعية، وهي ليست قائمة في الوقت الحالي، لكن أبسط ما نرجوه ونتمناه هو وضع حد للقطيعة، وكسر الجليد الذي تراكم بعد فشل الجولة التي كانت مقررة في شهر حزيران من العام الماضي، أي مباشرة بعد مواجهات شهري نيسان وأيار بما فيها أحداث القدس والشيخ جراح والحرب الرابعة على غزة، بعد ذلك الفشل تدهورت الأمور إلى الأسوأ، وليس من قبيل المبالغة أن نتفاءل كذلك في التأسيس لحوار جاد وحاسم، لا سيّما وأن جميع الفصائل من دون استثناء ما زالت مقتنعة بالدور المركزي لمصر في رعاية المصالحة التي تتداخل مع ملفات أخرى من بينها التهدئة وإعادة إعمار قطاع غزة وتبادل الأسرى، وتحتاج الاتفاقيات عادة إلى آليات للمتابعة والتنفيذ تملكها مصر، وليست متاحة للجزائر.

وأخيرا: ليس مفاجئا، أنه مع كل فشل وإحباط، وكل أزمة أو خيبة جديدة، تتراجع مكانة البنى السياسية القائمة وتتآكل شرعيتها، والرصيد الذي تمتلكه هذه الفصائل وقياداتها ليس مطلقا، بل هو معرّض للتناقص والتلاشي كما تدل على ذلك استطلاعات الرأي المتتالية، وكما دلّت أيضا ظاهرة ارتفاع عدد القوائم الانتخابية التي سجلت لانتخابات المجلس التشريعي من خارج الأطر التقليدية للحركة الوطنية، وبالتالي فإن من مصلحة الفصائل أن تنجح في حواراتها لاستعادة الوحدة، وإلا فإن تطورات الأحداث، والعجز المزمن عن مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد الحقوق الوطنية الفلسطينية، سيحوّل الفصائل من رافعة لهذه الحقوق إلى عبء عليها، وعقبة أمام إنجازها، وبالتالي فإن الرسالة التي يوجهها المواطن الفلسطيني إلى الفصائل المجتمعة تلخصها جملة واحدة: لا تخذلوا شعبكمّ!