بعد الاطلاع وقراءة الخطابات الدبلوماسية التي قُدمت في مجلس الأمن هذا الأسبوع، وبالنظر تحديداً لخطابات الممثلين الاسرائيلي والفلسطيني والإماراتي والأمريكي، أجد أنه من الضروري تقديم العوامل الأساسية التي تساهم في نجاح وكون الخطاب استراتيجياً.
تتمتع الدبلوماسية بعلاقة وثيقة بالاتصال الاستراتيجي من خلال الانخراط في مسابقة المصداقية لتحقيق الأهداف، فالدبلوماسية يمكن تعريفها ببساطة على أنها اتصال استراتيجي في سياق العلاقات الدولية.
التواصل الاستراتيجي يجعلنا ندرك أن القوة الناعمة هي القوة الأكثر جذباً. في تقييم الانتصارات، لا يزال من المهم تحديد الجيش الفائز في المعركة ولكن من المهم أيضًا في عالم اليوم الذي تحركه وسائل التواصل والاتصال الإجابة على سؤال من تربح روايته؟ وهنا التنافس على مصداقية السرد لا يقل أهمية، فالسمعة هي نتيجة للمصداقية المتراكمة وهي مهمة للغاية، لكن الطرق التي يمكنك من خلالها الإدارة وفقدان السمعة في هذه المنافسة للفت الانتباه تعتمد كثيرا على مصداقيتك والتي تؤثر أوتوماتيكياً على قدرتك للتأثير في الفضاء العام، الدبلوماسية يجب أن تنطلق من هذه القواعد من أجل التأثير الاستراتيجي.
المتتبع للخطاب الفلسطيني في مجلس الأمن يرى أن المصداقية جاءت عالية جداً في كل ما ذُكر من قضايا إنسانية وقواعد وقوانين دولية وسرد أو تذكير بالتزامات دولية قانونية وأخلاقية وما تقدم من صور التحيز العالمي لدولة الاحتلال والغطاء الدولي على جرائم الاحتلال ضد المواطنين، العامل المهم الذي ميز الخطاب أنه يستحيل إثبات عكس ما جاء فيه اذا اعتمدنا على التوثيق وتقصي الحقائق.
أما من تابع الخطاب الاسرائيلي فيرى أن عامل لفت الانتباه من خلال (الحجر) كان مؤثراً للحظات إلا أنه لم يكن استراتيجياً بل فقد الأثر سريعاً. المصداقية ليست بالضرورة مساوية للحقيقة، البعض يتلاعب بالحقيقة، هناك قادة يتلاعبون بها، على سبيل المثال ممثل دولة الاحتلال في الامم المتحدة قدم الحجر كوسيلة فلسطينية في ٢٠٢٢ لرجم سيارات الاسرائيليين، إلا أنه سرعان ما تم دحض ادعاءاته بتوثيق صور مهاجمة المستوطنين للمواطنين الفلسطينين مستعملين الحجارة بحماية من الجيش الاسرائيلي. ممثل اسرائيل حاول تشتيت الجمهور استناداً للحجارة التي كانت فعلاً وما زالت رمز الانتفاضة الفلسطينية الاولى، ولكنه قلب الحقيقة وأخرجها من مضمونها من خلال السماح بالتعبير عن نسخة واحدة فقط من الحقيقة، الخطاب الاسرائيلي هنا مثال حي للبروباغاندا.
الخطاب الأمريكي أيضاً، وبعد عام على دخول بايدن للبيت الابيض، شهدنا اختلافا في نهج إدارة بايدن تجاه إسرائيل وفلسطين أكثر حذرًا من ادارة ترامب. بايدن لا يريد إعطاء أولوية للمنطقة ولا يريد تقديم برنامج سياسي شامل، ولكنه يتبنى استراتيجية التواصل بالكلام المعسول الذي يُرضي المُتلقي لأول وهلة! المصداقية في الخطاب الأمريكي أصبحت تحت المساءلة بعد عام من المراوغة وبعض العدل في الخطاب، حيث ان هذه الادارة لم تتراجع عن قرارات ادارة ترامب بالرغم من تأكيدها وتكرارها على التزامها باعادة فتح القنصلية في القدس! مواقفها حتى اللحظة لا تتعدى تقديم المساعدات المادية أي للأسف المُطلع على تفاصيل خطة القرن يستنتج ان الوضع الراهن هو تطبيق عملي لديباجة الصفقة. حيث يعمل بايدن على تحقيق مكاسب متواضعة على الأرض وشفوياً يدعم حل الدولتين ويعارض الاستيطان ويعارض التهجير والخطوات الاحادية ولكن دون اي فعل حقيقي على الأرض، مما يبدو أن واشنطن تبرع في البروباغاندا وتسقط في نمط مألوف من دعم الاستقرار على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط.
أما الخطاب الإماراتي، فأكد على التزامها بدعم الشعب الفلسطيني الشقيق وحقه في تحقيق استقلال دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو لعام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وفقاً لمرجعيات الشرعية الدولية ونادى بأن تتحمل إسرائيل مسؤولياتها في هذا الصدد بما في ذلك أعمال بناء وتوسيع المستوطنات، ومصادرة وهدم الممتلكات الفلسطينية، والتهجير القسري للسكان بإشارة الى حي الشيخ جراح. وختم كلامه بحثّ المجتمع الدولي لحل الأزمات بشكل جذري وليس الاكتفاء بإدارتها. هذا خطاب مهم وعلينا كفلسطينيين متابعته مع دولة الإمارات والبناء عليه حتى نرى مدى مصداقية هذا الخطاب الدبلوماسي وأثره الحقيقي.
الفرق بين البروباغاندا والتواصل الاستراتيجي في الخطاب الدبلوماسي يرتكز على المصداقية في الرواية، تحقق البروباغاندا معدلات قبول غير حقيقية في جميع أنحاء العالم، فهي تخلق بيئة مغلقة يكون فيها الجمهور محدودًا جداً، ومن الصعب الوصول إلى الروايات الأخرى حتى يتمكن من إصدار حكم سليم للموقف. إذا كان ما تقوله يمكن دحضه بالأدلة ، فأنت تقوم بالترويج/البروباغاندا وتبتعد عن المصداقية والتواصل الاستراتيجي..
لقد قدم جوزيف ناي من جامعة هارڤارد في تعريفه القوة الناعمة عبارة “المصداقية التنافسية”، وعرف هذه الميزة في التواصل والدبلوماسية باختصار بمضمون أن الفائز اليوم هو ليس فقط من يحمل السلاح ولكن الفائز هو من تربح روايته وترسخ وتؤثر في الجمهور المعني.