هذا هو المقال الثاني عن هذه الرواية، حتى نفيها حقها من الدراسة، ونحن إزاء حاضر مرئي من الماضي والعكس ممكن.
جعل الروائي، لكل رحلة شخصياتها الاجتماعية والسياسية، بحيث رأينا تعددية تلك المجتمعات في مكة والكرك والقدس ودمشق وبغداد ومصر. كذلك، جعل الكرامات عامل تشويق في النص، كذلك رؤيته لشيوخه، بحيث كانت روافع للنص الذي اتكأ على السياق التاريخي والشخصي لشيخ له هموم واهتمامات محددة. إن تنقل الشيخ، جعل الكاتب يلحقه للمدن والمراكز، بحيث لم يكن هناك خيط درامي إلا للشيخ بالاستناد للأمكنة المتنوعة، ولم يكن هناك خط للتطور الدرامي للمجموع سوى موضوع الخلاص الجمعي. كما أن الحديث عن الملل والنحل والمذاهب، جعل الرواية تنحو فلسفياً اقتراباً من الوجودية، بل كأنه أوحى إلى أن هناك دوماً مجالاً لمعرفة الله الخالق وعبادته كل بطريقته بحيث لم نجده مخطئاً لا مذهباً ولا طائفة، حتى الطائفة اليزيدية، في ميل لقبول الآخر، كما يقتضي المجتمع الثقافي الديني التعددي أن يكون. يعيش ويتعايش كل هؤلاء، باختلافاتهم وما يمكن الاتفاق عليه.
الكرامات عامل تشويق: كما ذكرنا من قبل، لم يجعل الروائي شيخه هنا (الصوفي السيد البدويّ) خارقاً، بل حتى الكرامات الواردة، فقد قام بروايتها بشكل محايد، بميل نحو التفسير الاجتماعي والسيكولوجي لا الغيبي؛ ففي حواره مع عصابة البدو، نجد أنه اتكأ على المنظور النفسي والاجتماعي، وكرامة تطويع الجند، «أضمن لكم عطاءكم قبل أن تغيب شمس هذا اليوم»، اعتمد فيها أسلوب الضغط السياسي، من حيث العمل على توظيف أمرين: الأول النزاعات السياسية، والعزف على الولاء السياسي، والثاني مرتبط به، وهو الاستحواذ على الجمهور الشعبوي.
لقد بذر الكاتب تلك الكرامات المفترضة في جسد الرواية عامل تشويق، وعامل تفكير في أسباب الخلاص، بالتشجيع نحو العلم وإعادة الاعتبار للعمل الذاتي.
رؤيته لشيوخه: كذلك كانت رؤيته لشيوخه في الحلم أسلوباً تشويقياً من ناحية، ونقاشاً فكرياً ومذهبياً من ناحية أخرى، فقد رأى الشيخ بري شيخه الأول يقدمه للشيح أحمد الرفاعي، كذلك رأى الشيخ عبد القادر الجيلاني وحاوره عن الاختيار والطريق، كما حلم بأحمد الرفاعي. وفي العادة كان يراهم حينما يزورهم، حتى صار القارئ يتوقع حلم اللقاء مع كل زيارة لمقام أحد الأولياء. إنه استخدام الفنتازيا المتقبلة شعبياً، وأدبياً.

الشخصيات والسياق السياسي
في المكان، في الزمن المتقارب
جعل الروائي كما أسلفنا، لكل رحلة شخصياتها الاجتماعية والسياسية، فقد كان هو محور الدوائر كلها، كتقاطع الدوائر في «أشكال فن؛ «إن تنقل السيد البدوي، جعل النص منسجماً في البناء وتكوين الشخصيات التي لا تكاد تظهر حتى تختفي، ليبقى هو والسياسي في عصره، بحيث لم يكن هناك خيط درامي من أول الرواية إلى آخرها، إلا للشيخ في أبعاد الأزمنة، والأمكنة المتعددة، ولم يكن هناك خط للتطور الدرامي للمجموع سوى موضوع الخلاص الجمعي. (ولعل ذلك يفسّر أو يبرر هذا البناء للشخصيات).
مكة: شخصيات المكان كانت أحمد البدوي، وأخاه حسن، وفاطمة أخته، ونور الدين الراغب بالزواج منها، والشيخ بري، والشخصيات السياسية ذكر لراجح وحسن ولدي الأمير قتادة بن إدريس، وأما السياق فإن ابن رسول في اليمن يترك حلف مصر إلى بغداد؛ فمكة بين تنازع ملوك مصر واليمن، وتحريض الأمير قتادة بن إدريس على الكامل ضد أخويه المعظم مع الخوارزمية والأشرف مع الفرنجة. وميل المكيين القلبي لخليفة بغداد، وأكثر للاستقرار والتجارة، ومعلومات عن نية الملك الكامل في مصر بتسليم القدس للفرنجة. «حتى في أقدس بقعة على الأرض يتقاتل الناس» 29، مونولوج أحمد في مكة بعد لقاء قتادة بن إدريس.
ثمة كشف لنفسية وأهداف صلاح الدين في علاقته مع آل زنكي والتحول للدعاء لبغداد، «إنه استبدل أميراً بخليفة، لينشئ ملكه وحده» ص 35. استخدام القائد للتصوف ومناهضة الإسماعيلية وكسب الولاءات.
نفسياً، يتطهر أحمد البدوي من مشاركته في حرب الشقيقين الأميرين حسن وراجح وبدأ يميل للاعتزال، قبل وبعد اللقاء مع الأمير قتادة بن إدريس عرض عليه القتال ضد الأيوبيين القادمين لمكة مع الفرنجة، ترغيبه بالمزايا، وترهيب باتهامه بالتشيع. يبتعد ويرحل، لاختلاف المقاصد، فيصير السفر خياراً إجبارياً.
الكرك: وصف تفتيش الشرطة، ودخول القلعة، وصِيته يسبقه، كرجل صالح، وحديث اختباء الضب بعباءته، وعدم رؤيته يأكل أو يشرب، وموت أمير مكة الذي ضيّق عليه.
السياق السياسي: الأمير الناصر داود حفيد صلاح الدين يعلن الحداد على موت عمه الملك الأشرف في الشام نكاية بعمه الثاني الملك الكامل ملك مصر. موت الملك الكامل بن صلاح الدين، «»إن الملك الناصر يريد أن يرث ملك جده صلاح الدين، وأن يقوم بعمل كبير يسوغ له هذا الإرث» ص 55. كان عقلانياً لم يتشفَ. يقبل الناصر داود على الشيح البدويّ، لتشجيع العسكر من أجل الجهاد لتحرير القدس.
القدس: اختيار يوم وليلة ماطرة، حيث انقضاء 10 سنوات على تسليم القدس للفرنجة بغير قتال، يتم التحرير سريعاً، ويتم تطهير المسجدين، وما وضعه الصليبيون من رموز، وغسل المسجدين كما فعل صلاح الدين قبل 50 عاماً. وحصار القلعة ومفاوضات، وتذكير الفرنجة بالاتفاق مع الملك الكامل حول دخول القدس والتجارة وعمل السكان المحليين في الزراعة. والاستسلام بعد 20 يوماً، العفو تقليداً لعفو صلاح الدين. يرسخ الناصر داود اسمه مع العظام، الذي يكاتب الخليفة في بغداد. في خضم ذلك نسي الملك وحاشيته الشيخ البدويّ، بعد أن استخدمه سياسياً، في حين يلوذ الشيخ البدوي بالتأمل في الأقصى.
دمشق: في الطريق يرى أحمد وحسن كروم الفلسطينيين ص 80 «أنهم يفلحون حتى للإفرنجي». يرسم الكاتب بيئة دمشق من خلال حاسة الشم: المسجد الأموي السوق، يشهد تناقضات اختلاف المشايخ من المذاهب الأربعة، في حين ينتصب «بيت الشلكة» على العلن لطالبي المتعة.
وبغداد: الشيخ أحمد البدوي وأخوه حسن، يلجآن لمقام عبد القادر الجيلاني، برعاية عبد الوهاب المقدسي. يرسم الكاتب المكان: مدينة دون أسوار، مدينة تعددية، تنوع الأزياء والحراس، ثمة انفتاح اجتماعي وسط هذه التعددية، لدرجة «السفور والاختلاط والتفحش في الكلام، ضحكات نساء وأصوات موسيقى»، أجواء المغنيات والمخنثين. «في الحمام الرجل يفجر بالرجل» ص 100.
خلال ذلك، فإن الظرف السياسي هناك، يتمثل بالتنازع والصراع بين كل من ما يسمى أستاذ الخلافة ابن العلقمي متولي العمارة، الذي يحكم بغداد، وله علاقة ود مع التتار الذين يتواصل معهم عبر الرسائل، والمتصرّف الداوادار سليمان شاه أحد المتنفذين حول الخليفة حليف ابن الخليفة المستنصر. كما يتمثل بالتنازع الطائفي بين السنة والشيعة، والتنازع القومي بين الفرس والعرب، والتنازع بين مؤيد التتار ومعارضهم. وصولاً إلى نزاعات ساخرة: «خلاف على من سلم على الخليفة أولاً.. قتال من أجل جارية، حرب من أجل فرس..» ص 120. أما الخليفة فيطلب الخلاص أيضاً: «ليأخذ الناس كل شيء ويتركوا لي بغداد». ص 107
وهكذا فعل في أم عبيدة ومقام الرفاعي، وبادية الموصل في الطريق، ثم إلى مصر عبر الشام: وهناك يلتقي الشيخ العز بن عبد السلام. يمثل هو القلب والشيخ عبد السلام العقل. «الملك لا يرى في الإسلام إلا ما يخدم مصلحته» عز الدين. ص 221.
وحين يود زيارة القدس يمنعه الفرنجة. في هذه الأثناء يعقد اجتماع الفرنجة والأيوبيين للهجوم على مصر: الناصر داود والصالح إسماعيل والمنصور إبراهيم. «لا حياة مع الاحتلال، ولا محبّة ولا أمل» ص 276. وبسبب اضطراب القاهرة، فقد اختار طنطا بعيداً عن قصور الحكام «لا تريد أن تكون مرتهناً أو مستخدماً لقصر أو لأتابك» ص 258. «لا أملك في هذا المكان البعيد سوى قلبي وما فيه» ص 259.
يستقر في طنطا، حيث لا قصر هناك ولا حاكم، فهو لا يضطر للترحال إلا بسبب المشاركة في تحرير المنصورة، حيث يلتقي ثانية بالعز عبد السلام. سرد تاريخي عن لويس التاسع حيث يغزو المنصورة، الملك الصالح وزوجته عصمت الدين وجاريته الطموحة شجرة الدرّ، وفشل حلف الفرنجة والتتار، استدراج الفرنجة للمنصورة، ودور المقاومة الشعبية، ونقد بل غمز خفي بـ «الأمير فخر الدين بقي 30 عاماً». ص 274
ذكر لبيبرس فارس الدين أقطاي، الذي يتردد على حلقة الشيخ، كإشارة لدور العلماء في إعداد الجيل الجديد للانتصار على التتار فيما بعد.
سمات: لا شك أن الرواية هي رواية مضمون، تركز على المسار التاريخي، لكنها تنقلت عبر أمكنة كثيرة على حساب البعد الدرامي بوجود شخصيات عابرة للأماكن غير شخصيته، ربما لعدم توفر معلومات عن البدويّ، أو لوقوع الكاتب تحت تأثير الصدمة التاريخية قديماً وحديثاً.
إلا أنه للحق والإنصاف، فقد برع الكاتب في التنقل المكاني، ووصفه، لوضع القارئ في سياق الظرف التاريخي للمقاربة، وقراءة الآن العربي على ضوء الأمس، وأن التغيير يقتضي وضع استحقاقاته.
يختتم بـ «وإلى الشام تستمر الرحلة..»، نرى الرواية تدخل دائرة أخرى، كتركيز صوفي وأسلوب أدبي في اللانهائي. وهو المنسجم مع وصفه للرحلة والأماكن بمقاماتها وقبابها وروائحها، من خلال أسلوب ولغة تشكيل بصري ووصف للطقوس التي تتكرر، كدوران ما، حيث يتكرر وصف المقامات والحلم والكرامات.
وصف الكاتب والصوفي أحمد البدوي الحواضر العربية والإسلامية وصفاً نقدياً، والحياة المتنازعة وحياة البذخ، وهو ما جعله على طرف نقيض بشكل عام، رافضاً بالمجمل أن يتم استخدامه في غير مصلحة الخلاص الجمعي، لا خلاص أهل الحكم.
لذلك، فإن وصف الأماكن يقودنا في الوعي واللاوعي، إلى حياتنا الراهنة بجامع التعرض للغزو - الاستعمار الحديث، في ظل ضياع فلسطين والقدس بشكل خاص، التي يظهر لنا أنه يتم تسليمها مرة أخرى.