بوب ودوارد من الأسماء اللامعة في الصحافة الأميركية، وفي رصيده الكشف عن فضيحة ووترغيت، التي أطاحت بالرئيس نيكسون، إضافة إلى ما يزيد على عشرين كتاباً رصد ورسم فيها ملامح إدارات مختلفة على مدار خمسة عقود. لذا، يستمد كتابه الجديد عن أيام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض أهمية خاصة.
صدر الكتاب المعنون "خطر" في الحادي والعشرين من أيلول الجاري (512 صفحة، عن دار سيمون أند شوستر للنشر المرموقة) بالاشتراك مع روبرت كوستا، زميله في الواشنطن بوست. وهذا كتابه الثالث عن إدارة ترامب بعد كتابين هما "خوف" و"غضب"، رصد فيهما وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وأزماته الشخصية والسياسية هناك. وفي الكتاب الجديد صورة للأسابيع الفاصلة ما بين هزيمته الانتخابية، وخروجه من البيت الأبيض، وهذه هي اللحظة الأكثر خطورة في تاريخ الدولة الأميركية.
نال الكتاب، حتى قبل صدوره بصفة رسمية، اهتمام وسائل الإعلام الأميركية، والغربية، ونشرت كبريات الصحف مقتطفات منه، وأجرت مقابلات مع أصحابه. وأعترفُ، في هذا الصدد، وبعد قراءة متأنية على مدار الأيام القليلة الماضية، بأن الكتاب، ما عدا استثناء وحيد، لم يضف جديداً إلى المتداول، وما جاء في شواهد وشهادات سبقت عن أيام ترامب الأخيرة.
يتعلّق الاستثناء بدور الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة رؤساء الأركان المشتركة، قبل الانتخابات الرئاسية وبعدها، حتى مغادرة ترامب للبيت الأبيض، ومراسم تنصيب الرئيس الجديد بايدن. ولا يبدو من قبيل الصدفة أن يكون هذا، بالذات، محط اهتمام وتركيز وسائل الإعلام والأوساط السياسية الأميركية، والغربية.
وفي التفاصيل أن الرئيس الأميركي يملك حقيبة الشيفرة الخاصة بالصواريخ الحاملة للرؤوس النووية، ويملك بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة صلاحيات وسلطة إعلان وشنّ الحرب، وأن الحرب، بما فيها النووية، يمكن أن تحدث نتيجة سوء فهم متبادل، ووقائع قد لا تكون كبيرة أو خطيرة بالضرورة ولكنها تؤدي إلى تصعيد غير متوقّع.
ولم يكن ميلي، في سياق كهذا، فريداً بين المسؤولين الأميركيين في ما انتابه من شكوك في كفاءة ترامب السياسية، وقواه العقلية، منذ فوزه بالرئاسة، ولكنه كان فريداً من حيث وجوده في مركز صناعة القرار العسكري، ومدى قدرته على تفعيل أو إعاقة قرارات من هذا القبيل.
وفي الأيام التي سبقت الانتخابات الرئاسية، وصلت ميلي معلومات استخبارية تقول: إن الصينيين رفعوا درجة التأهب، وأعلنوا حالة الطوارئ العسكرية، خوفاً من ضربة عسكرية أميركية مفاجئة قد يفتعلها ترامب لتفادي نتيجة الانتخابات، والبقاء إلى أجل غير معلوم في البيت الأبيض. لذا، اتصل ميلي بنظيره، وزير الدفاع الصيني، لتأكيد أن مخاوف الصينيين ليست في محلها، واجتمع في الوقت نفسه برؤساء الأركان الأميركيين للتذكير بالضوابط والقواعد الخاصة باستخدام حقيبة الشيفرة النووية.
والمهم، أن ميلي أنشأ ما يشبه خليّة أزمة "للهبوط بالطائرة بسلام"، كما قال. كان الإحساس العام لدى فئة تزداد اتساعاً من الساسة والمسؤولين الأميركيين بأن البلاد أصبحت "على كف عفريت". ومن المؤكد اطلاع ترامب (رغم تدني قدراته العقلية)  وأنصاره (وبعضهم على دراية وكفاءة عالية) على حقيقة موازين القوى على الأرض.
شعر ميلي، بعد هزيمة ترامب في الانتخابات، وما تجلى من ردود أفعاله، أن قوى المذكور العقلية قد تدهورت، وبأنه أصبح مصدر تهديد للأمن القومي الأميركي. وتوقعت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، وآخرون، أن يتم القبض على ترامب بعد الهجوم على الكابيتول هِل في واشنطن.
على أي حال، لا أعتقد أن أحداً من مؤرخي هذه اللحظة، في تاريخ الدولة الأميركية، سيتمكن من تفادي الكلام عن دور قيادة المؤسسات العسكرية والأمنية في إحباط محاولة ترامب الانقلابية خلال الهجوم على مبنى الكونغرس. كان التمرّد، وما قد ينشأ عنه من فوضى، وأزمة دستورية، وإعلان الأحكام العرفية، آخر ورقة في محاولة ترامب الانتحارية للبقاء في البيت الأبيض.
وعلى الرغم من ميل مايكل وولف في "فوز ساحق" (سبق وتكلمنا عنه في معالجة سابقة) للقول: إن ترامب لم يكن على قدر كاف من الكفاءة العقلية للتخطيط لمحاولة انقلابية.. إلا أن ما رصده ودوارد وكوستا من أحداث سبقت وأعقبت وتخللت لحظة الهجوم على الكونغرس، يُمكّن المراقب من قراءة الخطوط العامة لمحاولة انقلابية.
من الواضح أن تلك المحاولة لم تولد دفعة واحدة، ويمكن القول: إنها تبلورت مع، ونتيجة، تطوّر الأحداث من لحظة اللجوء إلى القضاء (على أمل تعاطف قضاة المحكمة العليا مع ترامب) إلى محاولة إقناع نائب الرئيس مايك بنس بعرقلة التصديق على أصوات المجمّع الانتخابي، وفي النهاية محاولة إفشال العملية السياسية باقتحام الكونغرس نفسه، وتعطيل جلسته الحاسمة.
وبقدر ما أرى، يبدو أن صفات خاصة مكّنت الجنرال ميلي من ممارسة دور قد تتجلى أبعاده، أو يمحوها الزمن، في وقت لاحق، أعني ما يبدو من اطلاع واسع على التاريخ، وسعة أفق ثقافية وسياسية واضحة (صفات تكاد تكون نادرة في صفوف "جنرالات" آخرين في بلدان نكبوها ونُكبت بهم).
وبهذا المعنى نتكلّم عن الصلة الدلالية التي أقامها بين اقتحام الكونغرس في واشنطن الأميركية 2021، واقتحام قصر الشتاء في سان بطرسبورغ الروسية 1905، الذي كان، في نظره، مقدّمة لاستيلاء البلاشفة على الحكم في العام 1917. ولعل في هذه الصلة ما يضع على مستقبل الديمقراطية الأميركية، والدولة الفيدرالية، أكثر من علامة استفهام خطيرة وكبيرة. فاصل ونواصل.