مرةً أخرى، في بلادنا وفي معظم دول العالم، يتخبط المسؤولون ومن ثم الناس في قرارات أو في إجراءات التعامل مع فيروس كورونا، سواء بين قرارات الإغلاق أو الحجر أو السفر، أوحول جدوى إعطاء الجرعة الثالثة من اللقاح. وبين هذا وذاك، اختفت تماماً إجراءات الوقاية، فمن يسير في شوارع مدينة رام الله هذه الأيام مثلاً، نادراً ما يجد أحداً يرتدي الكمامة أو يلتزم بالتباعد، وهذا ينطبق على مختلف أماكن التجمع، في قاعات الأفراح وأماكن العزاء ودور العبادة وغيرهما، رغم بيانات وزارة الصحة اليومية حول جائحة "كورونا"، والتي تظهر تسجيل الآلاف من الإصابات والعشرات من الوفيات، في الضفة وفي القطاع.

وفي ظل ذلك، بعد جدال ونقاش وأخذ ورد، سمحت قبل أيام وكالة الغذاء والدواء الأميركية باستخدام الجرعة الثالثة من لقاح فايزر، وبناء عليه بدأ مركز مراقبة الأمراض الأميركي بالسماح بإعطاء الجرعة الثالثة لكبار السن ولذوي الأمراض المزمنة، وبالطبع هذا سوف يجر دولاً أُخرى في العالم للسير على نفس المسار، والجدل المتواصل حول أهمية الجرعة الثالثة، يعكس التخبط وعدم الوضوح فيما يتعلق بهذا الفيروس المتحول والمتطور، حيث بدأت إسرائيل بإعطاء الجرعة الثالثة قبل فترة، ولكن ما زالت الإصابات اليومية تسجل بالآلاف، وهناك المئات من المصابين في حالات صعبة في المستشفيات، ويتم تسجيل العشرات من الوفيات اليومية نتيجة مضاعفات الإصابة بالفيروس.

والغموض أو صعوبة التعامل مع فيروس كورونا ينطبق على فيروسات أخرى، فمنذ اكتشاف فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة "الإيدز" في بداية الثمانينات من القرن الماضي مثلاً، وملايين من الإصابات يتم تسجيلها سنوياً، ومنذ ذلك الوقت توفي حوالي 40 مليون شخص نتيجة تداعيات الإصابة بالفيروس المسبب للإيدز، الذي يدمر جهاز المناعة، وأصيب حوالى ثمانين مليوناً في مختلف أنحاء العالم، وبالأخص في القارة الإفريقية التي تصل نسبة الإصابة بالإيدز في بعض دولها الى حوالي 40% من عدد السكان.

 ورغم الأبحاث والدراسات وتسخير الآلاف من ملايين الدولارات، واكتشاف وتطوير الأدوية واللقاحات، ما زال الفيروس يفتك بالبشر ولم يتم التوصل حتى الآن إلى دواء فعال يمنع انتقال وانتشار الفيروس، ولم يثبت أي لقاح فعاليته، وفي أحسن الأحوال تعمل أدوية الإيدز مرتفعة الثمن والتي من الصعب الوصول إليها في الدول الفقيرة، على محاصرة الفيروس ومنعه من التكاثر، وفي حال توقف أخذ الدواء يعود الفيروس ويتكاثر ويحطم جهاز المناعة مسبباً في المحصلة الوفاة.

ومع القبول شبه الشعبي والرسمي لواقع التعايش مع "كورونا"، بدأ هذا الواقع ينطبق على بلادنا، حيث مع الآلاف من الإصابات اليومية، ومع انتشار الفيروس في معظم المحافظات الفلسطينية في الضفة وفي غزة وفي القدس وفي الداخل الفلسطيني، تبدو الأمور اعتيادية نوعاً ما، وبعيداً عن الإغلاق الشامل، تسير الأمور التجارية والاقتصادية والاجتماعية بشكل عادي، حيث المواصلات العامة والمحلات التجارية والاستيراد والتصدير والبنوك والدوائر الرسمية تعمل، هذا رغم الانتشار المسطح الواسع للفيروس، وما ينطبق على بلادنا، ينطبق على مناطق العالم المختلفة ومن ضمنها الولايات المتحدة وأوروبا.
 شئنا أم أبينا فإننا وفي ظل التعود على واقع التعايش مع "كورونا"، وبالتالي القبول التدريجي به كأي فيروس آخر، وفي ظل غياب بدائل أخرى، واقتناع الناس بأهمية التوازن بين الأمور المعيشية الحياتية والحفاظ على الجانب الصحي أي الإغلاقات، فإنه من المفترض أن نعمل على التأقلم مع هذا الواقع، من حيث نظام التعليم أو على صعيد العلاقات الاجتماعية من أفراح وأتراح ومناسبات وتجمعات، وعلى صعيد تطوير النظام الصحي، وبالأخص التركيز على مبدأ الوقاية والرعاية الصحية الأولية والتوعية الصحية، وكذلك على صعيد التعامل التجاري ومكونات الاقتصاد المختلفة وغير ذلك.

وفي ظل هذا التخبط والتقصي والمراجعة وتغيير السياسات وأصحاب القرارات، وبناء على نتائج دراسات أو أبحاث جديدة، يتضح تدريجياً أن هذا الفيروس سوف يبقى بيننا ولفتره طويلة، وبأن الحديث عن لقاح سليم وفعال، سواء من خلال الجرعة الثالثة أو الرابعة، أو عن إجراءات أو قيود، لن تقضي على هذا الفيروس، وفي أحسن الأحوال سوف تخفف منه ولفترة معينة، ومن الواضح أنه سوف تكون هناك موجات أخرى من التحورات الأشد فتكاً والأكثر انتشاراً، وبأن الواقع سوف يفرض على العالم البحث عن أفضل الأوضاع والأحوال للتعايش معه، وبأن ذلك سوف يكون الإستراتيجية الواقعية خلال المستقبل القريب والبعيد.

ومن الواضح وفي ظل هذا التخبط والعجز، أن العالم وأمام هذا الواقع وإمكانية ظهور فيروسات أو أوبئة قد تكون أشد فتكاً من الفيروس الحالي، تبرز الحاجة الملحة الى الاستثمار في القطاع الصحي وبشكل إستراتيجي، من أولوية في الميزانية ومن كوادر بشرية ومن أسرّة وغرف عناية وتبعاتها من أجهزة، ومن مختبرات ووسائل فعالة لنقل العيّنات، ومن نظام معلوماتي متكامل محوسب، تستطيع من خلاله الحصول على المعلومة بفعالية، ومن أنظمة إدارية للمساءلة والتعلم والتقييم، والأهم الاستثمار بعيد المدى في وسائل التوعية الصحية والوصول إلى الناس لإيصال المعلومة بدقة، ومن أنظمة الرعاية الصحية الأولية، القائمة وبشكل أساسي على مبدأ الوقاية وبالأخص من فيروسات مستقبلية قد تصيب البشرية بالعجز.