أنا جميلة وأنا الوحش
منوعات

أنا جميلة وأنا الوحش

أتشبّث بأفكاري زمناً طويلاً. أفكارٌ تصول وتجول ولها يومياتٌ روتينية. تنام وتستيقظ، تمسح آثار تشمّع طبيعي عن جفنيها، تهندم نفسها، تحقّرها أحياناً، تنقحها أحياناً أخرى، تكشّر في وجهي إن وجّهتها، وتبتسم برضا وهي تتبختر، أقسم أني أراها تتبختر في مساحة بضعة ميلليمترات مكعّبة،(مع أني لا أؤمن أن الأفكار مكانها العقل البيولوجي) تنتظر اللحظة المناسبة كي "أستفرغها" أو بتعبير أصحّ أن "أفرّغها". أنا لا أقصدها، أعني اللحظة المناسبة، بل فقط أدركها، ولا تدعها تفلت، كي لا أنتظر زمناً جديداً آخر، أتشبث به بأفكار تصول وتجول وتتبختر ولها يوميات روتينية. 

أتشبث بسؤال منطقي بسيط، من نشبه أكثر بين شخصيات الكرتون التي شاهدناها، بين جميلة والوحش حصراً، من نكون؟ جميلة طبعاً، على الأرجح أننا نشبه جميلة، بخفّتها وسحرها ونبل أخلاقها، بخيرها وتضحيتها، انا أشبهها حتى بشعرها الذهبي المعقوص وحتى بحذائها المسطّح.

هذا السؤال لم يكن من عدم، وُلد بعدما استمعت، مصادفة، في إحدى فترات الظهر المضجرة، إلى محاضرة الماستر وليد هاشم (وهو أظرف معلم طاقة إيجابية يمكن أن تقابله في حياتك) يشرح فيها الرموز الخفية لقصص ديزني.

تبدأ القصة، بعجوز، في ليلة قارسة، تطرق باب قصر فاخر يحتفل بدفء، لتهدي أميره، وردةً حمراء. يرفض الأمير الهدية بطبيعة الحال، وهي ردة فعل طبيعية متوقّعة، ليتحوّل فجأة إلى وحش.


الوردة كانت ترمز إلى نعمة الحياة، والعجوز هي إحدى تجليات الحكمة والملائكة الحارسة، رفض نعمة الحياة هي لعنة بحتة! لعنته أن يحيا بهيئة وحش إلى أن يقع في الحبّ. يطرق الوحش رأسه مكتئباً من الجحيم الذي سيحياه إلى الأبد، فمن تلك الفتاة البلهاء التي ستقع في حب وحش!

جذبتني المحاضرة أكثر، وعند هذا الحدّ بالتحديد سألت نفسي للمرّة الاولى سؤالاً منطقياً بسيطاً، من نشبه أكثر بين شخصيات الكرتون التي شاهدناها، بين جميلة والوحش حصراً، من نكون؟ ما زلت مقتنعة أني أشبه جميلة.

عرضت دور السينما العام الفائت، نسخة جديدة من الفيلم، حاولت جاهدةً مشاهدته وفشلت، لأجده يتصدّر لائحة أفلام شركة الطيران أثناء رحلتها ورحلتي من بيروت إلى باريس. انتقمت لنفسي وشاهدته مرتين: ذهاباً وأعدت تكراره إياباً، وبكيت على نفسي مرتين: ذهاباً وأعدت تكراره إياباً.

عندما تنتقل جميلة إلى العيش في القصر المهجور البارد، تصادق الجمادات، الكؤوس والشمعدانات والخزانة، ويعاديها الوحش، يرفضها، يشمئزّ منها، يغضب لفرحها، ويهزأ من أملها وإصرارها على الحياة في قصر سُلبت منه الحياة.

جذبني في الفيلم أول حوار مباشر وجدّي بينهما، في المكتبة، عندما كانت جميلة مذهولة بجمال الكتب وضخامتها، وتُفاجئ بوجود الوحش يراقبها ويخبرها أنه قد قرأ وتعلّم في أغلب الكتب الموجودة وأنه درس أعمال شكسبير عندما كان فتى، أذهلها أنها تسكن مع وحش مثقف، كانت له حياة. بعدها تتوالى الأحداث، لست هنا لأسرد القصة، بل الأهم أن جميلة تعلّم الوحش أن يغني بتلقائية من دون التفكير حتى إن كان صوته يصلح للغناء أو لا، أن يأكل بأظفاره من غير أن يخجل من طريقته الحيوانية، أن يلعق آثار الطبق، أن يضحك من نفسه، على نفسه، لنفسه، أن يحبّها.

تحقّقت اللعنة وانتفى شرطها، وانتهت غايتها، وقع الوحش في الحب، حب نفسه وجميلة.

سأقف قليلا وأعاود السؤال، من نشبه أكثر بين شخصيات الكرتون التي شاهدناها، بين جميلة والوحش حصراً ، من نكون؟ ما زلنا نحلم أن نشبه جميلة.

انتقمت لنفسي وشاهدته مرتين: ذهاباً وأعدت تكراره إياباً، وبكيت على نفسي مرتين: ذهاباً وأعدت تكراره إياباً، لأنني فطنت أنني لم أكن يوماً إلّا الوحش، نحن، حقيقة، نشبه الوحش أكثر من جميلة، نحن نعيش تجربة الحياة، وفي كل مرة نرفض فرص الحياة، وتربى وحوشٌ في دواخلنا ولو حافظنا على هيئتنا الإنسانية الأصلية. وفي كل مرة، نتعلّم الدرس، نتخلى عن وحش، تسقط أذيالنا، تنعم أظفارنا، وأنيابنا، نعود لنضحك على أنفسنا ومن أنفسنا ولأنفسنا.

تربى داخلنا وحوش، تصغر وتكبر وتصغر، حتى نصبح أكثر تلقّياً واستقبالاً وتقبّلاً لنعمة الحياة.